رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب : لنا الحق في المقاومة

عندما تُذكر كلمة مقاومة يذهب الخيال الى المقاومة بالسلاح فحسب مع ان انسان اليوم الطبيعي في حالة مقاومة من اليقظة حتى النوم وفي حالات في النوم عندما يهاجمه الواقع المخفي في الاحلام والكوابيس. عليه ان يقاوم التفاهة والسطحية والابتذال والرخص وان يبقى حي الضمير بشغف.
أن يقاوم الاستجوابات اليومية عما فعلت وعما لم تفعل من حراس النوايا ومن الذين يعرفون كل شيء عن أي شيء لأن هذه طبيعة الحمقى على قول ميلان كونديرا.
إن تحمل التفاهة والسطحية والضحالة العامة بلا ثغرات ولا تصدعات هو شكل من أشكال المقاومة الصامتة بل البطولة، وعلى قول شكسبير” مصافحة بعض الاشخاص تعد خطيئة” وتستحق ألف رحلة حج للتكفير عن هذه الخطيئة وألف سمفونية للنسيان وسبعة بحار للتطهر والاغتسال من التلويث ومع ذلك كلما تذكرت ذلك تشم رائحة براز جاف تحت الشمس.
الحمقى هم الاكثر حرية وطلاقة في الكلام لانهم غير مقيدين بقول الحقيقة خاصة في بيئة تحول فيها الهراء الى منطق والكذب الى الصدق والبراءة الى غباء والاحتيال الى شطارة وقول الحقيقة الى زور. وكل مقدمات الانهيار النهائي عندما يصاب مجتمع بخطر فقدان المعايير العامة التي تضبط الايقاع الاجتماعي ويصبح من حق اي فرد ان يحلل ويحرم حسب مصلحته.
الحق في المقاومة كالحق في الحياة والتنفس والحرية. هل يحتاج طائر وقع في مصيدة الى قرار الحق في المقاومة؟ هل تطلب شجرة إذنا لمقاومة الريح؟ والغيوم رخصة لكي تمطر؟ وشجرة التفاح اجازة لكي تثمر؟
لنا الحق في المقاومة، كل أشكال المقاومة، عندما تصبح الحياة والكرامة والحرية على المحك. عليك ان تقاوم يقظة الصباح الصاخبة وقوائم القتلى. حتى الانجاب صار سؤلاً يطرح: هل تثق بهذا العالم؟ هل كان العصفور يبني عشاً لو لم يكن واثقاً من الحياة بتعبير غاستون باشلار؟
لا يحتاج اليوم ان تطلق النار على شخص لكي تغتاله بل يكفي لتفرض عليه شخصية وقناعات وقواعد ونمط حياة لم يكن مستعدا له ولا يحلم به وخطة لحياة من نوع مختلف وشخصية مختلفة وتوقعات مختلفة، وفي هذه الحالة يتحول هو ومشاعره واحلامه وافكاره وجسده الى حاوية نفايات. يكفي ان تغتال وتخون أحلامه.
المقاومة كل لحظة لكي لا تنحط المشاعر والاحاسيس والعواطف وتتبدل طبيعتها، كما يحدث في تدوير النفايات، تتحول الى مواد سامة تخرب الذات والجسد وكل ما يحيط بالفرد من أفراد في علاقات،
لأن من أخطر خصائص العواطف السامة المنحرفة خاصية التعميم التي تزدهر في وسط عفن وتهرب من وسط نظيف أو تحوله الى مستنقع
كما يفعل خنزير في حديقة مشرقة بتحويلها الى مكان وسخ لكي ينسجم مع بيئته.
لنا الحق في مقاومة السقوط الذي لا يكون دائما وضعية جسدية ، وأخطر أنواع السقوط الاخلاقي هو أن يكون الانسان واقفاً في الظاهر والروح جاثية وراكعة. عندما لا تكون المعركة في ساحة حرب بل داخل ذات بين مشاعر وافكار متناقضة.
النفايات المادية المرمية تفقد هويتها الاصلية وتتحول الى هوية جديدة بعد التدوير ، لكن النفايات النفسية تفقد الانسان هويته الحقيقية بل جماليات الحياة وتحوله الى نفاية متنقلة نرى دخانها ونشم رائحتها لكننا لا نرى الحريق.
المقاومة بالحيلة كتاب جيمس سكوت استراتيجية الضعفاء أمام العنف والغطرسة والتوحش: “كيف تهمس الضحية لنفسها في ظهر جلادها، الصمت، النكات، التخيل والحلم، إستراتيجية الضعفاء أمام قوى عنيفة متعددة،
الكتابة السرية الاشارات والتلميح وحتى الموافقة الإضطرارية هي رفض”
في كتابها ” القبيلة تستجوب القتيلة” وهو مقابلات بعضها حقيقي والاخر متخيل، والمتخيل حقيقي أيضا ما دام الانسان يعيش المشاعر نفسها، تقول السمان:
” مع كل كتاب أخطه، أموت قليلاً ولعل أجمل الأحاديث التي لم أكتبها هو حواري مع الاديب الكبير غسان كنفاني وله حكاية مختلفة”.
والحكاية المختلفة مع كنفاني الذي اغتالته اسرائيل هي قصة حب رائعة بعد أن وقع غسان في حب غادة السمان وهام بها وتبادلا الرسائل لكن تلك القصة لم تصل غايتها.
أن تولد أنثى في الوطن العربي ، عليها أن تكون معرضة للاستجواب من القبيلة ـــــــ الرجل الخارج من القبيلة ليس استثناءً من الاستجواب ـــــــــــ وللقبيلة العربية أسماء، منها قبائل تقليدية ومنها قبائل سياسية وثقافية وعليك كل لحظة أن تبرر كل فعل وتشرح لماذا انت حي ؟ والى أين تذهب روحك بعد موتك وهو السؤال الذي طرحه الصحافي جراهام فيشر على الكاتب البريطاني الكبير جراهام كاري وهو يحتضر ؟.
واحدة من استجوابات القبيلة للضحية أن تحفر قبرها بيدها ويتم الاستجواب داخل قبر ثم تنهال عليها السكاكين أو الرصاص أو تحرق حية لكي تنظف المدينة من الإثم. يصبح القاتل بطلاً والقتيل مجرماً. هذه مقاييس مجتمع يريد الديمقراطية.
قد تحترق الاوراق يوما لكن الكلمات المسطرة عليها تطير كما قال بن جوزيف اكيبا عام 132 بعد الميلاد. لكن اليوم لن تحترق الأوراق ولن تطير الكلمات لانها مكتوبة في صفائح وحواسيب وذاكرات وسجلات ووثائق ولا يستطيع احد ما صناعة قصة مزيفة كل الوقت.
” النفاق الطاولة المستديرة لفرسان المجتمع” تقول غادة، البعض ينافق كما يتنفس من العادة والتكرار. كم هو صعب ومكلف أن تتظاهر أنك لا تعرف، أن تتجاهل بدل أن تفتح الباب أو النافذة وتصرخ.
عندما تنتهي الحرب لا يبدأ السلام بل تبدأ الحرب الأوسع وفيما يتعلق بالنساء الكل فرسان، الحشاش والخمار والمنحرف والوغد وعليها ان تكون عرضة للاستجواب كل لحظة لكن من من؟.
في رواية لنا” المختفي” يقوم ثلاثة أشخاص بقتل إمرأة من حادثة حقيقية أحدهم مهتوك سيرة والثاني مخزن متنقل للرذيلة والثالث مخبر في النظام السابق الذي كان يغطي هذا النوع من الجرائم. كان هؤلاء الأحق بغسل العار من قصة حب نقية.
مشكلة كبيرة أن يتحول مخصي عقليا وثقافيا وسياسيا من سلطة من الخارج أو من الداخل ومن ذات تم تركيبها له ويتوهم انه حر يصبح قاضياً على أبرياء ويمتلك الحق في الحياة والموت.
اذن لماذا العنوان” القبيلة تستجوب القتيلة؟” يلوح الكتاب في جوهره كما لو انه جريمة قتل والتحري جاري للبحث عن الجاني . لكن من هو الجاني ؟ الجاني هو نفسه رجل التحري، هو رجل القبيلة، وفي النهاية قد تسجل الجريمة حالة انتحار يشارك فيها الطب والشرطة والقضاة في جريمة جماعية ويصبح القتلة هم الشهود.
يطرح عليها الكاتب مفيد فوزي سؤلاً:
” أنت متهمة بالاستقرار بعد تشرد؟” تعيش في باريس منذ سنوات، وتجيبه:
” ركضت طويلاً في هذا العالم المترامي كمشرحة كبيرة، ركضت طويلاً”. حتى الاستقرار تهمة .
في كل ما كتبته غادة السمان من روايات وسيرة ذاتية كان بحثا عن الجذور وتحديا للقبيلة بأنواعها بلغة مفتوحة، عن المقاومة والثورة والحب والخوف ، لكن سيرة العربي لا تصلح أن تكون سيرة في المركزية الأوروبية، بل حياة العربي لا تصلح للبقاء، ولو كانت غادة فرنسية أو أمريكية أو ألمانية، لتم الاحتفال بها وحملت كل جوائز الادب.
كيف لكاتب او كاتبة عربية يكتب عن المقاومة سواء مقاومة السطحية أو التفاهة أو التطبيع مع عدو أن يكون مرحباً به في الغرب وكانت غادة عضوا فيها، ورفيقة درب وصديقة لقادتها في لبنان؟ اغلبهم قتلوا ، أبو الحسن سلامة مدير المخابرات الفلسطينية الملقب بالأمير الأحمر زوج ملكة جمال العالم جورجينيا رزق عام 1971، غسان كنفاني، أبو أياد صلاح خلف من مؤسسي حركة فتح واغتيل في تونس من الموساد في منزله ومن اطلق عليه النار خلف مكتبه ايهود باراك رئيس وزراء سابق الذي قال:
“نظر أبو أياد الي بعينين من نار وحاول مد يده للبندقية على الطاولة لكني أطلقت عليه النار”.
انتهى زمن العلاقات الكبيرة للرجال الكبار والنساء الكبيرات. نحن في زمن تافه ومن لا يكون تافهاً يُصنّف كمريض نفسي وهو فعلا ً كذلك لأن المتكيف مع مجتمع مريض هو مريض بتعبير عالم النفس والفيلسوف أريك فروم مؤلف” الخوف من الحرية”. كيف تأقلم مع مجتمع مريض لو لم يستعمل معاييره المشوهة؟
كيف يمكن الاعتراف الاوروبي بكاتب وهو يكتب عن المقاومة وحتى نجيب محفوظ لم يحصل على جائزة نوبل إلا بعد اعترافه بالتطبيع مع اسرائيل.
حتى صديقتها بلقيس الراوي زوجة الشاعر نزار قباني قتلت في تفجير السفارة العراقية في بيروت عام 1981 فكتب نزار قباني قصيدة يشكر فيها القبيلة العربية على انتصارها على امرأة ويخاطب بلقيس:
” فنحن قبيلةٌ بين القبائل ــــ هذا هو التاريخ يا بلقيس . كيف يفرق الإنسان ما بين الحدائق والمزابل؟”
لذلك غادة السمان ثلاجة قتلى متنقلة وذاكرة جريحة بين عواصم العالم. كتبت عن غسان كنفاني:
” نعم كان ثمة رجل اسمه غسان كنفاني. وكان له وجه طفل وجسد عجوز، عينان من عسل وغمازة جذلة لطفل مشاكس هارب من مدرسة الببغاوات ، وجسد نحيل هش كالمركب المنخور: صبي حرم من وطنه دونما ذنب .لم يكن فيه من الخارج ما يشبه صورة البطل التقليدية . كان ببساطة بطلا حقيقيا. والأبطال الحقيقيون يشبهون الرجال العاديين رقة وحزنا لا نجوم السينما الهوليوودية الملحمية: غير العادي في غسان كان تلك الروح المتحدية. النار الداخلية المشتعلة المصرة على مقاومة كل شيء ، وانتزاع الحياة من بين منقار رخ القدر. نار من شجاعة تتحدى كل شيء حتى الموت”.
” الفنان انسان مشبوه، تستشهد غادة السمان بقول سارتر، يستطيع أي كان أن يستجوبه، أن يوقفه، أن يجره الى أمام القضاء”،
لكن انتصار الكاتب والفنان ليس في حكم العامة وليس أمام القضاء، ولا أمام اي جهة في الكون، لأن النص تحرر وطار محلقاً كفرار طائر من قفص ولم يعد للكاتب علاقة به بل صار قارئاً عادياً.
هناك مقاومة الاختزال لأن العقل الاختزالي Reductionist mind ينزع الأحداث والأشخاص من ظروفهم الطبيعية الحقيقية ويحكم عليهم بناء على ظروف ملفقة مركبة رغبية قائمة على تحيزات: من أعطى الحق لآخر في الوصاية واختزال الناس حسب معايير فردية مشوهة في أن هذا جيد وذاك ردئ وهذا صحيح وذلك خطأ؟ اختزال الانسان في وصم وحبسه في خانة عمل من أرشيف البوليس القمعي الذي يحفظ الانسان في ملفات وأدراج مع أن للانسان الحق في أن يكون كما يريد لا كما يراد، له الحق في النسيان، له الحق في أن يتغير ويبدأ من جديد، ومطاردته من زمان الى زمان في وصف واحد عدوان على حياته وعلى حريته تعاقب عليه القوانين لأن الانسان طاقة تحولات مستمرة وليس تمثالاً في متحف أو ملفاً محفوظاً وهذا الاختزال المتخلف خاصية المجتمعات الراكدة التقليدية المجترة التي تختزن الحوادث التافهة لسنوات لانها لا تعيش تحولات الحداثة السريعة ولا في قطيعة معرفية مع الماضي والقطيعة لا تعني الانفصال بل تصفية الماضي من الشوائب..
من يستطيع اعادة نص في كتاب الى الحجر والمصادرة في عالم الفضاء المفتوح العابر للقارات؟
لن تتوقف القبيلة من استجواب القتيلة، قاتل يحاور ضحيته، وقتيل يعتذر لانه ظل حياً أكثر مما يجب،
ولن تنتهي الحرب، حروب القبيلة، حتى تبدأ حروب أخرى: هل كتب على العربي ألا يعيش الحياة وألا يكتب قصة عذابه؟ محروم من الحياة ومن الحكي ارضاء للقبيلة؟
صحيح كما قالت غادة السمان في كل كتابة يموت شيء فينا ، لكن ما دمنا قادرين على الكتابة وعلى الذاكرة وعلى التمرد وشرب القهوة في الصباح والاحتفال بالمطر الرذاذي وفرح الاطفال في الطريق الى المدرسة ، وتشييع الشهداء بالزغاريد فنحن أحياء.
صحيح نبدو في حالة استسلام يسميه البعض جبناً وخوفاً وهزيمة لكنه في الحقيقة الفشل البطولي وليس هزيمة نفسية: الفشل البطولي عندما يستهلك الانسان كل طاقته في صراع غير متكافئ وطويل ومستنزف لكن البطولة من لحظة دخول الصراع بصرف النظر عن النتائج لان معركة الحرية في الغاية وليست في النتيجة. أطلق أرنست همنغواي على هذا النوع من الفشل بالفشل البطولي.
المثقف في مجتمعنا هو الحائط الواطئ الذي يستطيع الأنذال وضع القدم عليه والاتكاء للاستراحة بلا عقاب ولا حساب بل وبلا تضامن لانه خارج القبائل وفي عرف المجتمع خليع أو غير مرغوب فيه. هذا مجتمع يريد الحرية وهو يسحقها في كل التفاصيل.
الحياة مسيرة ارغامية في حقل الغام، تقول، لكن يجب عبور حقول الالغام.
أذكر يوم عبرت حقول ألغام جيشين في الحرب العراقية الايرانية بحثاً عن مكان هادئ مضيء ومسالم، خلفي جيش وأمامي جيش وفوقي رصاص وأمشي فوق الغام ـــــــــــ على أي جانبيك تميلُ؟” ــــــ شعرت بسكينة لم أعشها أبداً رغم انني قد أتشظى في أية لحظة من انفجار حقل الغام. تلك السكنية ليست نتاج شجاعة بل نتاج اليأس المحفز والمحرض على جنون مغامرة الحرية. اليأس المتراكم إما يحرق أو يضيء.
من الأشرف والأجمل والأبهى أن ينفجر بك لغم وتتشظى على أن تحاصرك القبيلة بسكاكينها وتقدم لها اعترافاً عما فعلت حتى لو كان تحت التهديد بالقتل: القبيلة المتعددة الاسماء تحب دائما الكذب وتعشق الاستباحة الصامتة وتكره وتخاف من التعبير عنها لكي تصنع من الكذب حكاية تغطي سمعتها وليس شرفها المختزل لانها بلا شرف بالمعنى العميق للشرف: الثقافة والمعرفة والعلم والانصاف والحكمة والاصغاء والتريث والعدالة والحرية والاختيار وحق تقرير المصير جزء جوهري من الشرف.
سأل كاتب غادة السمان في هذا الكتاب:
” يبدو لي انك تعيشين ضياعا بين الحقيقة والخيال، هل أنت سعيدة بذلك؟”
” أنا لست ضائعة عن عالمي بل ألاحق عالما ضاع عن نفسه”.
منذ فجر التاريخ والبشر يلاحقون هذا العالم ، الحلم، فلا هذا العالم يولد ولا العالم الذي أضاع الطريق يموت، في حالة تفسخ ومخاض لا تنتهي،
وكل ما يمكن عمله هو رفض هذا الإستقرار الجبان : حتى الشرود الذهني والحلم والصمت والعزلة والكتابة والأمل بحياة نظيفة وواضحة، والخيال بل حتى السخرية الصامتة مقاومة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى