عماد خالد رحمة يكتب :الاحترام والعقلانية: نحو تفكيرٍ يحرّر الإنسان من وهم الطاعة:

ليس كلُّ احترامٍ فضيلة، ولا كلُّ إصغاءٍ للآخرين حكمة. ثمة احترامٌ مُفرِط يتخفّى وراءه الخوف، ويتلطّى تحته العجز، ويتلبّس بملامح التهذيب بينما هو في العمق انكسارٌ خافت. ولعلّ أخطر أشكال هذا الاحترام هو ذاك الذي نمنحه للآراء كيفما اتّجهت، ولو كانت واهيةً، متناقضةً، خرافيةً، أو حتى معاديةً لكرامتنا ولعقل الإنسان نفسه. إنّ احترام الرأي الآخر ليس فريضةً مطلقة، بل هو قيمةٌ تُوزَن بمقدار ما تصون ضرورات البقاء وحرمةَ الإنسان وحقّه في الحياة الحرة: مأكلٌ لا يُنتزع بالجوع، مشربٌ لا يُساوم بالذل، ومساحةٌ من الحرية لا تُختزل بين قضبان أو تحت سلطةٍ متعسّفة.
كلُّ ما يتجاوز هذا الحدّ يتسرّب إلى منطقة الظلال: استكانةٌ تُقدَّم على أنها تهذيب، وخضوعٌ طوعيٌّ يُسوَّق بوصفه احتراماً، وتماهٍ مع الاستبداد يُبرَّر بذرائع اجتماعيةٍ زائفة. فالإنسان – في كثير من الأحيان – لا يدرك أن طاعته الهادئة ليست منبثقةً من قراراته العميقة، بل مملاةٌ عليه من منظومة واسعة من الضغوط: ثقافية، اجتماعية، نفسية، ونمطية. ويوهم نفسه أنّه اختار، فقط لأن أحداً لم يشهر في وجهه سوطاً مادياً، متناسياً أن أسواط الفكر قد تكون أشد إيلاماً وفتكاً.
إنّ أحد الأوهام الكبرى التي نبني عليها ذواتنا، هو اعتقادنا أنّ كل ما نريده نحن، وكل قرار نتخذه هو امتدادٌ لصوتنا الداخلي. غير أننا – في الواقع – أبناء محيطٍ يتسلّل إلى عقولنا دون أن نشعر، ويزرع فينا ما نظنّه “قناعاتنا الشخصية”. فنحن نتماهى مع توقعات الآخرين كي لا نعاني العزلة، ونستسلم لرأي الجماعة كي لا نُقصى، ونتبنّى خطاب الأغلبية كي لا نُتَّهم بالتمرّد، ونقبل بأدوارٍ لا نشبهها خوفاً من سقوط وهم الاستقرار.
بهذا المعنى، يصبح “الاحترام” سلاحاً ذا حدّين: إمّا بوابةً لفضيلة الحوار، أو قناعاً للاستلاب الطوعي. ويغدو “العقلانية” فعلاً تحررياً: أن نُميّز بين ما هو اختيارٌ حرّ وبين ما هو انعكاسٌ لهيمنةٍ فكرية؛ بين ما نريده حقاً، وما نُقنِعُ أنفسنا بأننا نريده؛ بين احترامٍ يحفظ كرامة الإنسان، واحترامٍ يهدر كرامته في صمت.
إنّ سعادة الإنسان الحقيقية لا تُبنى على الطاعة، بل على القدرة الشجاعة في أن يقول “لا” حين يجب، وأن يفكّك القيود غير المرئية التي تكبّل قراراته. فالعقلانية ليست ضرباً من الجفاف الفكري، بل هي فنّ التحرّر من الوهم؛ وهي الخطوة الأولى نحو حياة تُشبه الإنسان، لا الصورة التي يراد له أن يكونها.
وهكذا، لا يكون الاحترام قيمةً سامية إلا حين يقف إلى جانب الحرية، ولا تكون العقلانية نوراً هادياً إلا حين تُعيد للإنسان صوته الأصلي: صوت الذات التي تفكر لنفسها، وتختار لنفسها، وتحيا – دون خوفٍ أو خضوع – لكرامتها وحدها.







