رؤي ومقالات

د. فيروز الولي تكتب :اليمن… بلدٌ لا يغرق في الديون فقط، بل يغرق في الذين يصنعون الديون

قبل أن تُفتح أبواب الفنادق لاستقبال “منحة جديدة”، وقبل أن يلمع القلم في يد مسؤول يريد صورة تذكارية وهو يوقّع “اتفاقًا لإنقاذ البلاد”، هناك حقيقة لا تُقال:
اليمن لا تتلقّى مساعدات…
اليمن تتلقّى محاليل إنعاشٍ في جسدٍ يحتضر لأن الأطباء سرقوا المستشفى.
ويا أشقّاءنا في السعودية والإمارات وقطر…
قبل أن تمدّوا يد العون مرة أخرى، لا نريد الدعم.
نريد سؤالًا واحدًا فقط:
“أين ذهبت ملياراتكم السابقة؟
وأي ثقبٍ أسود ابتلعها؟”
اسألوا أنتم… لأن اليمنيين لو سألوا سيتهمونهم بمحاولة إسقاط النظام، وإن تكلموا سيتهمونهم بمحاولة إسقاط “المنظومة”.
كشف حساب؟
يا له من طلبٍ أسطوري!
في بلدٍ كلمة “كشف” جريمة، وكلمة “حساب” مصطلح منقرض، وعبارة “مكافحة فساد” تُستخدم كديكور في المؤتمرات لا كمبدأ للعمل.
نريد فقط:
كشف حساب القروض والمنح.
كشف حساب لمسؤولين صعدوا السلطة حفاة وخرجوا منها بأجنحة.
كشف حساب لمشاريع لم يرها أحد إلا في ملفات PDF.
كشف حساب: متى دخلت الأموال؟ أين توقفت؟ من لمسها؟ وكيف تبخرّت؟
لكن هذا الطلب يشبه مطالبة لص محترف أن يكتب مذكراته بعنوان:
“حياتي مع الأمانة”.
كيف تغرق اليمن؟
1. قروض بلا مشاريع… ومشاريع بلا أثر… وأثر بلا حياة
الدول تقترض لتبني طرقًا.
اليمن يقترض لتبقى الطرق كما هي… بل أسوأ.
كل شيء عندنا “قيد”:
قيد الدراسة
قيد المناقصة
قيد التنفيذ
قيد التمديد
قيد النسيان
والمبلغ؟
قيد التلاشي.
2. في اليمن: الدين يتحرك… والدولة لا تتحرك
الأموال تدخل كالسيل،
وتتبخر كالدخان،
وتختفي كما يختفي مسؤول عند صدور أي تقرير رقابي.
سرعة الفساد في اليمن أعلى من سرعة الإنترنت،
وفوق قدرة المواطن على الصبر،
وأعلى من منسوب أي منحة.
3. البنك المركزي… مؤسسة تحتاج GPS لمعرفة أين هي اليوم
أي دولة في العالم تنتقل جيوشها…
إلا اليمن، ينتقل بنكها المركزي.
هذه ليست دولة.
هذه حالة طوارئ متحركة.
4. منظومة كاملة تتقن مهنة واحدة:
جعل المال يختفي بلا صوت
المنح تتحول إلى فواتير
القروض تتحول إلى أعذار
الأعذار تتحول إلى تصريحات
والتصريحات تتحول إلى… فراغ.
الجانب الاقتصادي:
اقتصادٌ يعيش فقط ليغطي جنازته
1. اقتصاد مريض… وحكومة ترتدي معطف طبيب مزيف
الأسعار ترتفع كالصواريخ،
والرواتب تهبط كالحطام.
التاجر يقرر،
والسوق يملي،
والدولة تتفرج.
2. عملة تُسحب من الشعر إلى القبر
التضخم يلتهم كل شيء…
والرواتب تتلاشى كما يتلاشى الأمل في طوابير الصرافين.
3. اقتصاد مراكز القوى… أكبر من اقتصاد الدولة
اقتصاد القات
اقتصاد الجبايات
اقتصاد “الطريق آمن ادفع”
اقتصاد “التسهيل مقابل التحميل”
لم يعد لدينا اقتصاد دولة…
لدينا اقتصاد سلطات متوازية، كل سلطة لها بوابتها وسعر مرورها وقانونها الخاص.
الجانب السياسي:
سياسة أشبه بمسرحية بلا جمهور… وبلا نص
السياسة في اليمن اليوم ليست إدارة اختلاف… بل إعادة تدوير الفشل.
1. الشرعية تبحث عن شرعيتها
والمعارضة تبحث عن معارضتها
الجميع ينتظر الحل من الخارج،
والداخل ينتظر من يفسر له ماذا يجري أصلًا.
2. تحالفات قصيرة العمر… أقصر من عمر هاشتاق
تحالف اليوم عدو الغد،
وحليف الغد مشكلة بعد غد.
3. سياسة تعيش على المنح… لا على الرؤية
كل قرض يخلق تحالفًا،
كل منحة تخلق لجنة،
وكل لجنة تخلق موازنة صغيرة تشبه “بقشيش سياسي”.
الجانب الاجتماعي والعسكري:
الجنود بلا رواتب،
الموظفون بلا دولة،
اليمنيون بلا مستقبل.
الجندي ينتظر راتبه…
و”المنظومة” تنتظر مؤتمرًا في فندق ٥ نجوم.
الشعب يحلم بكهرباء ٤ ساعات،
والمنظومة تحلم بسفر ٤ أيام مدفوعة التكاليف.
جيل وُلد مديونًا…
وجيل سيولد وعليه ختم رسمي قبل أن يتنفس:
“مدين بالوراثة”.
الجانب الدبلوماسي:
الشحاتة الرسمية بروح VIP
منحة جديدة، مؤتمر جديد، خطاب جديد…
وحياة قديمة لا تتغير.
العالم يسمع “دعم اليمن”…
ونحن نسمع:
ملف جديد، قيد جديد، نزيف جديد.
الجانب الثقافي:
ثقافة صُنعت لتمنع السؤال… لا لتصنع الإجابة
1. ثقافة التطبيع مع العبث
صار الفساد “عادي”،
وصار الظلم “قدر”،
وصار السكوت “حكمة”.
2. ثقافة الاستهلاك بلا إنتاج
نقرأ، نغضب، نكتب، ثم ننسى…
بينما المنظومة تتقن فن “استفادة بلا مساءلة”.
3. ثقافة صناعة الأصنام الصغيرة
كل مسؤول يصبح “رمزًا”،
وكل فشل يصبح “خطًا أحمر”،
وكل خيبة تُمنح لها لوحة تكريم.
الخلاصة… الجزء الأكثر فتكًا:
اليمن لا يغرق…
اليمن تُغرق عمدًا.
اليمن لا تخسر أموالها…
اليمن تُنزف كإسفنجة بلا توقف.
اليمن لا تحتاج منحة جديدة…
اليمن تحتاج مشرحة تشرح أين ذهبت المنح القديمة.
اليمن لا تحتاج قرضًا…
اليمن تحتاج مقصلة قانونية للفساد المؤسسي.
اليمن لا تحتاج دعمًا…
اليمن تحتاج إغلاق صنابير الفساد قبل فتح صنابير المساعدات.
الرؤية الفتاكة لإنقاذ ما تبقى:
1. رفع السرية المصرفية عن كل مسؤول من 2012 إلى اليوم.
2. نشر كشوف مالية شهرية إجبارية لا تُؤجّل.
3. ربط أي دعم خارجي برقابة دولية مباشرة غير قابلة للالتفاف.
4. إنهاء ثقافة “اللجان”… واستبدالها بلجان محاسبة.
5. اعتبار إخفاء المنح والقروض جريمة خيانة وطنية صريحة.
وأخيرًا… الحقيقة الأكثر فتكًا:
اليمن لا يحتاج دينًا جديدًا…
بل يحتاج نهاية هذا الدين الجديد.
اليمن لا يحتاج منحة…
بل يحتاج منح إجابات.
اليمن لا يحتاج من يسنده…
بل من يسحب الغطاء عن الذين ابتلعو.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى