كتاب وشعراء

عماد خالد رحمة يكتب :البنيويّة في الأدب: حين يتحوّل النصّ إلى كونٍ مُغلقٍ على أسراره:

لم تكن البنيوية مجرّد منهج نقدي عابر، بل كانت زلزالًا معرفيًا أعاد ترتيب علاقة الإنسان باللغة، وبالعالم، وبنفسه. فمع منتصف الخمسينيات، انفتح النقد الأدبي على أفقٍ جديد حين تلاقى علم اللغويات الروسي عند رومان جاكبسون مع الأنتروبولوجيا البنيوية عند كلود ليفي-شتراوس، ليكون الحدث التأسيسي: تطبيق القراءة البنيوية على قصيدة بودلير «القطط».
هناك، في تلك اللحظة، لم يعد النصّ مجرّد كلمات، بل بنية، شبكة من العلاقات، منظومة من التقابلات والإحالات تنتج المعنى وتخفيه في الوقت ذاته.
البنية: انقلاب على “المؤلف” وعودة النص إلى ذاته.
جاءت البنيوية لتقول بجرأة:
ليس المؤلف هو مركز النص، بل النصّ ذاته.
فاللغة لا تحتاج إلى نيّة قائلها لتفهم نفسها.
النصّ كائن مستقل، يتحرك بمنطقه الداخلي، وتعمل عناصره ككائنات متشابكة لا تعطي المعنى إلا في علاقاتها لا في ذواتها.
ومن هذا التحول، انبثقت قراءة جديدة للأدب تنظر إليه كما ينظر عالم الأحياء إلى الكائنات الدقيقة:
تفكيك، تحليل، رصد العلاقات، قياس البنى، وتحديد “القوانين” التي تحكم تشكّل المعنى.
الشكلانيون الروس: من الدهشة إلى القاعدة.
قبل الفرنسيين، كان الشكلانيون الروس—منهم شكْلوفسكي وبروب وتوماشفسكي—قد وضعوا اللبنات الأولى لفكرة أن “أدبية الأدب” تكمن في بنيته لا في موضوعه.
فإذا كان الشعر يوحي بالدهشة، فذلك لأنه يعيد تشكيل اللغة عبر انزياحاتها وإيقاعاتها وبُعدها التركيبي.
وقد جاء بروب ليبرهن ذلك في الحكاية الشعبية حين كشف وظائفها الثابتة، وكأنها معادلة كونية تتكرر عبر الثقافات، الأمر الذي جعل البنيويين يرون في السرد نظامًا لا حكاية فحسب.
البنيويون الفرنسيون: نحو هندسة معمّمة للنص.
مع الفرنسيين، بلغت البنيوية ذروتها.
جيرار جنيت أعاد صياغة الزمن السردي بوصفه لعبة تركيبية لا تُفهم إلا في علاقتها بمنظور الراوي.
تودوروف وبريمون أعادا النظر في السرد بوصفه فعلًا يتوالد من إمكانات وقوى تحرّك بنية الحكاية.
لقد نظروا إلى النص كما ينظر المهندس إلى بناء: أعمدة، أسقف، شبكات، مقاطع، علاقات، توازي، تقابل… كل شيء يخضع لقانون.
البنيوية في النقد العربي: بين التوطين والتحديث.
حين انتقل المنهج البنيوي إلى العالم العربي، لم ينتقل بوصفه “موضة فكرية”، بل بوصفه محاولة لتحديث أدوات القراءة.
فقد تمثّل نقّاد كبار—من كمال أبو ديب صاحب «المرايا المقعّرة» و«المرايا المدبّبة»، وعبد الفتاح كليطو صاحب القراءة الفاتنة للنص التراثي، ويمنى العيد، وعبد الله الغذامي، وعبد الملك مرتاض، وجابر عصفور، ومحمد بنيس، وحسين الواد، وخالدة سعيد—هذا المنهج بطرائق متعددة:
منهم من ركّز على تفكيك البنية السردية.
ومنهم من اهتمّ بالبنية اللغوية.
ومنهم من رأى في البنيوية مدخلًا لتجديد قراءة التراث.
ومنهم من جعلها أداة لفهم البنية الثقافية للمجتمع نفسه.
وهكذا، لم تكن البنيوية عند العرب مجرد نسخٍ مستورد، بل تحوّلت إلى مخبر معرفي يجمع بين التراث والحداثة، بين اللغة العربية وثورتها الداخلية، وبين النص والتاريخ.
البنيويّة: من البحث عن الثبات إلى اكتشاف العَلَاقة
العمق الحقيقي للبنيوية أنها لم تسأل:
ماذا يقول النص؟
بل: كيف يقول ما يقول؟ وكيف يُنتج المعنى؟
فاللغة لم تعد وعاءً للفكرة، بل آلةً لصناعتها.
والنص لم يعد مرآةً لواقع خارجي، بل بنية مكتفية بذاتها تصنع عالمها الخاص.
ومن هنا اكتشف النقد أن المعنى ليس نبتة تنمو فوق سطح النص، بل جذرٌ يتوزع في تربة البنية.
_ خاتمة:
البنيوية، في جوهرها، كانت محاولة لتحويل الأدب من “كلام جميل” إلى “نظام معرفي” يمكن تفكيكه وقراءته كالعلم.
هي انتقال من جماليّة الحُسن إلى هندسة الدلالة، من انفعال القراءة إلى ميكانيكا النصّ، من سلطة المؤلف إلى سيادة البنية.
وحين نقرأ الأدب بعين البنيوي، نكتشف أنّ النص ليس مجرد كلمات، بل كونٌ صغير يملك قوانينه الخاصة، وأن الناقد ليس مجرد قارئ، بل عالمٌ يدخل بنادقته التحليلية إلى أعماق اللغة ليكشف عن البنية التي تحمل سرّ الجمال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى