د.أسامه حمدي يكتب :الفرق الشاسع بين وثنية جزيرة العرب قبل الإسلام وديانة المصريين القدماء

جاء الخطاب إلى بيتي ففتحته، ولم أصدق ما فيه! كان يقول: “برجاء الحضور لتحطيم صنم جاءكم بالبريد”! حدث هذا في فترة عملي بالمملكة السعودية في أوائل التسعينيات، حين أرسل لي صديق أمريكي تمثالًا لشعار ولايته الأمريكية وعليه اسمي، مع عبارة تحية رقيقة وشكر. حزنت يومئذ جدًّا على تحطيمه في هيئة الرقابة على البريد، ودهشت من ضيق أفق هؤلاء الناس وقلة فهمهم. ومع الأسف ما زال هناك أمثالهم كثيرون في مصر يهرتلون حتى اليوم بنفس الكلام ويقاطعون المتحف المصري، ويعتبرون ما فيه أصنامًا يجب أن تُحطم أو تُغطى بالشمع كما قال أحدهم في زمن نعرفه جميعًا.
دفعني ذلك إلى التفكير في الأمر، ومحاولة توضيحه للجميع، خاصة لهؤلاء الجهلة، فكثيرًا ما يُطلقون وصف “الوثنية” على كل الديانات القديمة، لكن هذا التوصيف فيه تبسيط مخلّ، إذ تختلف العقائد باختلاف الحضارات؛ فالمصريون القدماء لم يكونوا “وثنيين” بالمعنى الذي نعرفه عن العرب قبل الإسلام، بل كانت ديانتهم فلسفة كونية وأخلاقية متكاملة ومتصلة، في حين أن الوثنية العربية كانت عبادة مباشرة لأصنام من الحجارة، بلا أي عمق فلسفي، أو أي نظام أخلاقي شامل. فالوثنية تعرّف بأنها عبادة الأصنام باعتبارها آلهة في ذاتها، دون إدراك لوجود إله أعلى جامع، وهي تقوم على تقديس الحجر، أو الشجر، أو الحيوان، وغالبًا ما تفتقر إلى منظومة أخلاقية، أو رؤية كونية متماسكة، وهذا ما كان عليه العرب قبل الإسلام.
أما في ديانة المصريين القدماء فالتمثال كان مجرد رمز، لا الإله نفسه؛ فالآلهة عندهم لم تكن مجرد أصنام؛ بل تجليات لقوى الطبيعة والكون (الشمس، والنيل، والخصوبة، والعدالة)، وارتبط ذلك بالعدالة الكونية (ماعت)، فالدين المصري القديم ارتكز على أهمية الحق، والعدل، والنظام الكوني، حيث يُحاسب الإنسان بعد الموت بوزن قلبه أمام ريشة العدالة، وأن هناك حياة بعد الموت، وأن الإنسان مسؤول عن أعماله، وهي فكرة قريبة من الديانات السماوية، أو مؤسسة لها في هذه الأزمنة السحيقة. ولديانة المصريين القدماء وظيفة حضارية، إذ كانت جزءًا مهمًّا من بناء الدولة والعمارة، فالمعابد كانت مشروعات دينية وسياسية في آن.
أما الوثنية في جزيرة العرب قبل الإسلام فكانت عبادة مباشرة للأصنام، فالعرب في عصور جاهليتهم عبدوا هُبَل، واللات، والعُزّى، ومناة، باعتبارها آلهة في ذاتها، لا رموزًا لقوى كونية، مع غياب البعد الأخلاقي المنظم، إذ لم يكن عندهم نظام أخلاقي شامل مثل ماعت، بل كانت العبادة مرتبطة بالطقوس، كالطواف عرايا حول الكعبة، وتلطيخها بالدماء والصفير والتصفيق أثناء الطواف . كذلك كان هناك غياب لفكرة البعث الواضحة، فالاعتقاد بالحياة بعد الموت كان ضعيفًا أو مشوشًا، ولم يكن جزءًا من العقيدة المركزية لهم. ولم يكن هناك تصور لقوة عليا جامعة؛ بل آلهة متفرقة لكل قبيلة أو منطقة، فالدين عندهم كان مرتبطًا بالقبيلة والهوية المحلية، وليس بمشروع حضاري شامل كما في مصر القديمة.
الخلاصة أن المصريين القدماء لم يكونوا “وثنيين” بالمعنى الذي نطلقه على العرب قبل الإسلام، فديانتهم كانت فلسفة كونية وأخلاقية، فيها بذور التوحيد والإيمان بالبعث، في حين أن الوثنية العربية كانت عبادة أصنام مباشرة، بلا عمق فلسفي أو أخلاقي؛ لذا يمكن القول إن ديانة مصر القديمة كانت جسرًا حضاريًّا بين الديانات الرمزية القديمة والرسالات السماوية التي جاء الإسلام ليكملها ويؤكدها.
يبقى أن أطالب الحكومة السعودية بعد أن تحررت من هذا الفكر الصلد والمتخلف أن تعيد لي تمثالي، أو تعوضني عنه!
د. أسامة حمدي









