حين نادتني الأطلال… بقلم زيان معيلبي

حين نادتني الأطلال
بصوت أمي..
كانت أمي، في كلّ آخرِ أسبوع، تجمع حقائبها الصغيرة، ترتّب ثيابها بطمأنينةٍ يعرفها من عاش زمن البساطة، ثم تلتفت إليّ بابتسامةٍ تُشبه وعدًا غير منطوق:
“سنذهب إلى الذهب… إلى بيت أخوالك.”
كنتُ يومها طفلًا لم يتعدَّ السادسة عشر، لكن قلبي كان يسبق عمري بكثير. كان سماع كلمة البادية كافيًا ليوقظ في داخلي بهجةً لا أعرف لها وصفًا. هناك… بعيدًا عن صخب المدينة، كان ينتظرني عالمٌ آخر، عالمٌ ينام على سكينةٍ ويصحو على نداء الريح.
بيت جدّي كان قائمًا وسط البادية، بيتًا بدويًّا بسيطًا، لكنّه في عيني كان أوسع من كلّ المدن. كنتُ أعدُّ الأيام لأصل إلى ذلك المكان الذي أحبّه أكثر من أي بيت. لا أتذكّر أنّ شيئًا كان يُسعدني مثل الجري خلف الشياه بين المرتفعات، ولا أنفاس الريح التي كانت تصفع وجهي، كأنها تُعلّمني معنى الحرية قبل أن أعرف الكلمة نفسها.
وفي كلّ مرة نصل فيها، كانت جدتي تستقبل أمي بضحكتها التي تُشبه دفءَ الموقد في ليالي الشتاء، ويركض أخوالي نحونا كأنّنا كنوزٌ عثروا عليها بعد غياب طويل. كانوا يرسمون البهجة دون مجهود… قلوب نقية، نوايا بيضاء، غبطةٌ لم أعد أراها اليوم في وجوه البشر.
لكن الزمن لا يستأذن أحدًا…
كبرنا.
تفكّكت الأيام.
ورحل من كان يملأ المكان بالدفء.
رحلت جدّتي… تفرّق الأخوال… ثم رحلت أمي، وتركت في داخلي فراغًا يشبه صحراء بلا ظلّ.
مرت سنوات طويلة، وصرتُ أزور البادية وحدي، كمن يعود إلى وطنه الأول. لكن حين وقفتُ ذات يوم أمام بيت جدّي، لم أجد البيت الذي أعرفه.
لقد عَثَ به الزمن… ضربته الرياح، أكلت جدرانه الأمطار، وسقط سقفه في بعض نواحيه. صار أطلالًا لا تشبه سوى ذكرى بعيدة، كأنّ المكان نفسه قد شاخت روحه.
دخلتُ بخطوات مترددة بين الحجارة المتناثرة، وكلما لامستُ جدارًا متهالكًا، حملتني الصور إلى تلك الأيام… إلى ضحكة جدّتي… إلى يد أمي وهي تسحبني لألحق بالشياه… إلى صوت أخوالي وهم ينادونني من بعيد.
كانت الذكريات تنهض من تحت التراب كأنها لم تمت قط.
وفجأة، وبينما أقف في وسط الأطلال، مرّت نسمةٌ باردة من خلفي. شعرتُ بها تمسّ كتفي بخفةٍ غريبة، ومعها… جاء صوتٌ مألوف، صوتٌ أسمعه بقلبٍ أعرف نبضه أكثر من معرفتي بنفسي:
“ولدي… وصلت؟”
توقّفت أنفاسي.
الصوت… صوت أمي.
نفس النبرة… نفس الحنان… نفس الارتجافة الصغيرة حين تنادي اسمي…. التفتُّ حولي.
لم يكن هناك أحد.
غير أن المكان امتلأ فجأة برائحة الخبز الذي كانت تصنعه صباحًا… وبرائحة حطبٍ كانت جدّتي تشعل به الموقد. أطلالٌ مهجورة، لكنّها بدت في تلك اللحظة وكأن الزمن عاد ليقيم فيها.
ثم سمعتُ الهمس مرة أخرى، هذه المرة أقرب:
“اشتقنا لك…”
لم أعرف هل سُمع الصوت بأذني… أم بقلبٍ اشتاقت أجزاؤه لمن رحلوا.
لكنّي أدركت شيئًا واحدًا:
لم يكن البيت مسكونًا بالأشباح…
بل بالذين أحببتهم، بالذين ما زالوا يسكنون داخلي مهما تهدّمت الجدران وتشقّقت الطرق.
جلستُ على صخرةٍ من أطلال البيت، ونظرتُ نحو الأفق.
حتى وإن صار المكان خرابًا… فإنّ البيت الحقيقي لم يسقط قط.
فالأماكن لا تحتفظ بمن سكنوها؛ بل القلوب هي التي تُظلّلهم، تحفظ أصواتهم، وتمشي بهم معنا في كلّ رحلة.
ومنذ ذلك اليوم…
كلما زرتُ البادية، لم أعد أبحث عن أحد.
فالكلّ هناك…
في بيتٍ لم يعد من حجرٍ وطين، بل من ذاكرةٍ ما زالت تركض داخلي…
ركضتها الأولى خلف الشياه، بين صخور الجبال.









