غير مصنف

زيارة إلى رواقٍ منسي.. قصة قصيرة شعرية بقلم: نرجس الشجيري

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

زيارة إلى رواقٍ منسيّ

عند مروري في ذاك الرواق المنسي، شدّني كرسيّ خشبيّ قديم،
تجلس عليه امرأة مسنّة تتكوّر في ضوء خافت،
تبتسم بخجلٍ كأنها تُسامح العالم كلّه مرة واحدة.
كانت نظراتها معلّقة في فراغ واسعٍ لا ينتهي،
ويداها باردتين رغم حرائق الذكريات التي مرّت بهما.

لم ألتفت أوَّل الأمر إلى التجاعيد التي تزحف على وجهها
كخرائط رسمها زمن أعمى بأصابع مرتجفة…
لكن ما أسرني حقاً
كان ذلك الشرخ الخفيّ الذي يشقّ الشرايين،
ويصدر عند كلُّ نبضة
صرير بابٍ صَدِئ يفتح على قلبٍ أرهقته الرحلة.

أما الدموع…
فكانت تهطل كغيمٍ ضلَّ الطريق،
تسير ببطء فوق الوجنتين
بحثاً عن معنى أو سقف أو حضن.
دموعٌ دافئة محشوّة بالحنين،
جلست قبالتي مثل مسافرة جاءت من زمنٍ آخر،
تفتح حقيبتها وتلقي أمامي
صوراً باهتة،
ضحكاتٍ كُسرت أطرافها،
وخطاباتٍ كتبتها امرأة كانت يوماً
تركض خلف الحياة.

رأيت في تلك الدموع شريطاً سينمائياً
يُعرَض على شاشة من غيم،
فيلماً بالأبيض والأسود عنوانه: “رحلة حياة”.
يمشي القطار فيه على سكةٍ من الذاكرة،
فتتناثر من النوافذ محطات مثقلة بالهموم،
تهبط منها أرواح بلا وجوه
وتجلس على كراسي الانتظار
كأنها تحرس أبواب الماضي.

وفي كل محطة،
كانت الذاكرة تلوّح بمنديلٍ
لأسماء تحوّلت إلى غبار ناعم
يسكن رفوف الروح.
دموعٌ تتساقط بلا وعي،
تتزاحم عند الأجفان،
وتتحول إلى طيور صغيرة
تنقر زجاج القلب ثم تعود صامتة.

ثم صفّرت صافرة الرحيل…
فاهتزّت الطرقات،
وانتزعت الذاكرة نفسها من كرسي الانتظار
وانطلقت نحو محطة أخرى،
بحثاً عن مناديل تتراقص،
أو ضوءٍ يوقظ الذين ناموا طويلاً
على رفوف النسيان.

كانت الدموع تمشّط دروب الحنين،
تسير فوق الوجنتين
كسيل من المطر الموحل بالوجوه الجارفة…
وبعد نعيق اليأس،
مسحت الدموع نفسها بكفٍّ خجول،
وتجمّعت بقايا الصبر على أطراف القلب،
تسنده إلى ربٍّ كريم
يعرف وحده
كيف يشدُّ ظهراً أنهكته السنون..

عند آخر محطة…
تجمّدت اللقطة..
سكن الزمن فوق سطر،
وخرج صوت النهاية
كحفيف جناح مكسور
يتمتمُ بحسرةٍ لا تُجيد الصمت:

“طشرنه الوكت… مو چنّه ملمومين”.

رسمتي 🎨

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock