كتاب وشعراء

مطر لا يُشبه المطر … هيثم الأمين / تونس

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

يسكنني مطرٌ؛
مطرٌ لا يُعلّم الحقول كيف تصنع ربيعا لأجسادها العارية…
مطرٌ لا يكنّسُ اسفلت المدينةِ
ولا يمشي تحته المتشرّدون كأن لا شيء يحدُثُ…
مطرٌ لا يطرق – كطفل مشاغب – زجاج النّوافذِ…
مطرٌ لا يحاصر عاشقينِ داخل سيّارتهما
فيوقدان القبلات شكرا للمطرْ
لكنّه مطرٌ
يشبهُ المطرَ حين يحرّض المزاريب على البكاء؛
مطرٌ يملؤني بالشّاعرِ الذي كدتُ أنجو من صراخه في حنجرتي
حتّى أكاد أصيرُ هوَ
فتصير أصابعي أرحاما من أبجديّةٍ
فأَنْزِفُني وأنزِفُني وأنزِفُني
في ولادة القصيدةِ…
يسكنني مطر يهطل داخلي؛
مطرُ لا يهطل من سحابة و لم يكُ، بوما بخار ماءْ
مطرٌ يهطل من حزن يمتدّ من جثّة توأمي
– حين كانت لغتنا صراخا و بكاء –
إلى حدود جثّتي وقد صارت اللّغة رفاهيّةً لصمت يسرف في الثرثرةِ!
مطرٌ يهطل داخلي
فأشعُرُ بالبردْ.
أدندن:
“رجعت الشّتويّة”
“رجعت الشّتويّة”
وأنسى باقي كلمات الأغنيةِ
وأتذكّر أنّي نسيتُ إبريق الشّاي على الموقدِ
فأشتُمُ…
مطرٌ يهطلُ.. داخلي؛
لا أشمّ رائحة التّراب المبلولْ
ولا أسمعُ الأطفال يغنّون:
“* يا مْطَرْ يا خَالْتي
صُبّي على ڨُطّايْتي**
ڨُطّايْتي مبلولة
بزيت الزِّيتُونَة”
لكنّي أرتجفْ
فأخمّنُ أنّ المدفأة الكهربائيّةَ لا تعملُ!

“الجوّ حارّ جدّا في غرفتكَ!
طبعا، المدفأة الكهربائيّةُ.. تعملُ”
أخبرني ضيفٌ.. جاء وذهب، على عجلْ…
ثمّ أتذكّرُ:
“لا تِحزن يا حبيبي إذا طارت العصافير
رجعت الشّتويّة
رجعت الشّتويّة “.
مطرٌ.. مطرٌ
أنا ذاك المطرُ الذي يهطلُ داخلي!
داخلي.. أحياء قصديريّة لا تتوفّر فيها شبكة تصريف…
أهطلٌ داخلي؛
أركضُ منّي حتّى لا أُبلِّلَني!
– أبدو أنّي سأهطلُ لأيّامٍ كثيرةٍ! –
أهطلُ من حزني
وأُصَبُّ من سطوحي
فأتجمّعَ في طُرقاتي و ساحاتي
وفي أزقّة ذاكرتي!
أمتزجُ.. أنا.. بي
فأصير وحلا…
أنا الوحلُ أُحاصرُني
وأنا الوحلُ لا مَهْرَبَ لي منّي!
أشعر بالبردْ،
أرتجفُ
وأشتُمُ المدفأة الكهربائيّةَ لأنّها أحرقت أصابعي؛
إنّها تعملُ!
مازلتُ أهطلُ؛
أهطلُ كمطر بُعِثَ ليُغرِقَ كلّ شيءْ!
أصرخُ: أحتاجُ دفئا…

في وِحدتها، كانت حبيبتي تبكي!
حبيبتي كلّ الأطفال الذين يغنّونْ
لكنّ حبيبتي تعاني من رُهاب المطرْ
وأنا.. أهطلُ
فمن سيغنّي لي:
” يا مْطَرْ يا خَالْتي
صُبّي على ڨُطّايْتي”؟
ــــــــــــــ
*أنشودة شعبيّة يغنّيها الأطفال وهم مجتمعون تحت غطاء عند نزول المطرتعبيرا منهم عن الفرح بقدوم الغيث.
**الڨُطّاية: منديل صغير تغطّي به المرأة مقدّمة الرّأس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock