يَحصل في المرآة…..بقلم بثينه هرماسي

هي تنظرُ.
وأنا أنظر،
والمرآة تفصلنا.
هي تحكي،
وأنا أغصّ الصّمت وأبلع صوتي.
هي تنادي،
وأنا أمرّ ولا أُصغي إليها.
تثرثر وتعاتبني،
ترقب عودتي وتسأل.
وأنا أتدثّر الغياب وأمضي عابرة.
على وجه المرآة أمشي،
أكتب الطريق وأسير إليك.
فتسألني:
– لِمَ تأخّرتِ؟
– كنتُ أحمل الطريق على ظهري.
على وجه المرآة أسأل:
– من هي تلك التي تسرق وجهي وترمقني؟
فتردّ عليّ المرآة:
– جلدكِ!..
– جلدي الذي مات فنزعته على قارعة الطريق؟
جلدي الذي تركته ليرفّ بأجنحة ملائكة؟
جلدي ينتصب من موته ويعود إليّ من جديد؟
تجزم المرآة:
– جلدك عاد “زومبي” وليس ملاكًا ليحذو خطوك.
الآن تذكّرتُ…
كنتُ أحوّم الذُّرو ورأيت جلدي في الهوّة يسقط.
ورأيتُكِ تلوّح من الضفّة:
– انزلي!
تعالي أعلّمكِ السّير على الأرض!
أنختُ نظري،
وحدّقتُ إليك.
طأطأت رأسي فحضنني شوك القعر وضمّني.
رفعت بصري ليمدّ لي الطريق يده وينتشلني.
أدار ظهره، صعّر لي خدّه،
ولم أعد أجده.
هذا الطريق لم أتقن السير عليه،
كان يسير فوقي.
في مرّة أخرى:
لا تعلّمني السير،
علّمني فقط التقاط سقوطي.
هي تقول كأنها تقرأ كفّي:
أني انكسرت، وأنّي ما زلت سأنكسر.
– لا تُصغي إليها! لا تعرها اهتمامًا.
إنها تهذي وتكذب.
إني ما زلت منتصبة،
ألدّ الرسوب وأقاوم الكبوة.
أخطّ الطريق،
وأمضي أضمّد رَضّي،
وأرتق الشذر إلى الشذر وأدرز قرحي.
أراك تسير إليّ،
فأهرب وجِلة.
أغادر قلبي وأتركه عندك يهذي.
هي تقول:
– وإن غادرتِ،
عودي لي مع الخطاطيف بعد كل انحدار!
فأبسم وأرفّ بأجنحة متقصّفة.
وأعود لأسترجع قلبي،
وأخطّ عليه بالمقلوب حكمة لتنعكس على وجه المرآة بأحرف صائبة:
لا تأتوا القلوب من ظهورها،
ولا تدلفوها من نوافذها المكسورة…
للقلوب حُرمات؛ استأذنوا!
وإن أذن لكم، لا تعبثوا ولا تخرّبوا!
وإن لم يأذن لكم، فارحلوا!
أعود لأسترجع قلبي،
وأُصغي لقول الحفر:
– لا تُصدّقوا هذيان القلوب!
هي تنظر،
وأنا أنظر،
والمرآة تفصلنا.
هي ترحل،
وأنا لا أقتفي خطوها.
فقط،
أنظر للطريق وأتحسّس يباب وجنته .
على وجه المرآة ينعكس فيضبّبني…
على وجه المرآة،
حين مررتُ يدي،
كان الطريق ناشفًا أحرش الجلد.
أدركت أني نسيت أن أرطّبه.
على وجه المرآة،
أطلّت عليّ عقارب الساعة عاتبة:
– ونسيتِ أيضًا تمشيط شعر الوقت في الاتجاه الصحيح!
على وجه المرآة،
كان الوقت يتأنّق لتنعكس وسامته،
فأنجذب إليه.
أميل وأفقد توازني،
فيمدّ لي حبله ويطوّقني.
على وجه المرآة،
يغيّر الوقت وجهه،
فتمتدّ من أصابعه ثعابين ماكرة تلتفّ حول رقبتي لتخنقني.
على وجه المرآة،
أحتطب من حلقي حشرجة،
حشرجة صرخة تدوّي.
أهوي بها فأسًا على جرم الوقت فأشرخه.
أحفن شظاياه وشذره،
ثم أمضي فيه مبحرة.
على وجه المرآة،
هذا الوقت لم يناسبني.
بيني وبينه ضغينة صدع.
هذا الوقت، ألاحقه،
فيغتابني.
هذا الوقت، يلاحقني،
فأغتابه.
أنفلت خلسة منه لأغتاله خارج اللغة بمجاز يهدر دمه علنًا.
هذا الوقت…
أغادر معناه، وأعود إلى نصّه.
أمسح أنفاسه على وجه المرآة وأرطّبها.
هذا الوقت…
ال يشغر ويغيب،
ال يموت ويحيا،
ال ينأى ويعود.
أتعبني!
فأنفث في حلقه رمق قصيد.
وأخرّ منهكة فأنظر حولي.
فإذا بالعناوين التي جمعتنا
لم تغادر الجدران،
لكن الأمكنة لم تعد هناك؛
غادرت..
خانتها أقدامها
فبقيت عالقة على ملح الوقت…
أخرّ منك منهكة،
وأنظر حولي،
وأبحث عنك.
أحدّق وأُدقّق النظر،
فإذا بي ألقاك فيّ تقبع،
وتبحث عني..
وتلقاني فيك أقبع.
فأسألك:
– ومتى وجدتني؟
– في شهوة الغرق!
– ومتى ستعود مني؟
– في تمام الطفو.
فتطلّ الأخرى،
في المرآة متشفّية:
– هم أحسنوا الغرق،
وأنت علقتِ على السطح!
فأنهرها، وأطمئنك:
– دعها تهذي، لا تقلق.
لن ترسب معي،
لأنّي سمكة،
لأنّي غصن من شجرة.
رفيقي الغرق يمدّ لي جلده دائمًا
زورقًا لينتشلني.
هي تنظر،
وأنا أنظر،
والمرآة تفصلنا.
هي تنادي،
وأنا أمرّ ولا أُصغي.
هي تمضي راحلة،
وأنا أقشّر ظلال وحدتي وأقلّم أظافرها.
أتصفح حيرتي،
وأسأل الأمكنة التي أخذتني إليها عنوة:
– متى ستعتقني؟
وأسأل الأمكنة الأخرى التي حملتها على كفي دون وعي إلى المنفى…
وأعجب كيف نبتت وارفة في قلبي حقلًا.
يمشي المكان ويرتحل،
فأتعقّبه.
أراه يحطّ رحله على الغيم ويبكي.
يبكي شغورًا على مقعد الغياب وينتحب.
يرفّ المكان على أطلال الوقت،
يستعبر هدبه ويندى.
فتهبّ عقارب الساعة عازفة موّال الذكريات في شجو:
🎶🎵🎶
“هيمتني، تيّمتني عن سواها أشغلتني
أختُ شمس، ذاتُ أُنس دون كأس أسكرتني”
🎶🎵🎶
تطفو الأمكنة عائمة على سطح الذاكرة في شطح،
فأنشدك:
– وإن عدت يومًا…
ارفع قدمك عن قلبي!
تدمع عين المرآة وتبكي،
وتمدّ يدها على كتف المكان مربّتة.
على وجه المرآة،
أضم جلدي إلى صدري فيلبسني ونلتحم.
تطلّ عليّ الأخرى في المرآة باسمة لتحضنني.
فأحضنها ونتّحد.
وتطلّ عليّ أنت لتنادم غربتي.
على وجه المرآة،
يعكس الوقت نأيه في صمت،
ويعزف المكان تراتيل الارتحال.
على وجه المرآة…
أنا…
وأنت…
والوقت…
والأخرى…
لإيلاف قلوبنا تجاورنا في المنفى !
⸻بثينة هرماسي
نص قديم لكنه بالحذو
صوري أمام المرآة قبل خمس سنوات،
أرافق بها هذا النص









