كتاب وشعراء

المقابلة بين الدال والمدلول في المعنى اللغوي….. بقلم: عماد خالد رحمة_ برلين.

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

منذ أفلاطون، ظلّت الفلسفة الغربية تعمل تحت إغواء فكرة واحدة مركزية: وجود حقيقة سامية تمتلك سمات ثابتة ومتعالية، حقيقة تقيم في مستوى يتجاوز الحواس ويعلو على مفردات التجربة اليومية. وقد تجلّى هذا الحضور المتعالي في منظومة من الكيانات الميتافيزيقية التي شكّلت نواة المذاهب الفلسفية الكبرى: المبدأ الأول، الصورة، الهيولى، الغاية، الأزل، المطلق، الربّ. وهي كيانات افترضت الفلسفة امتلاكها لـ”مدلول ثابت” سابق على اللفظ، حاضرٌ في ذاته، متعالٍ عن التمثّل اللغوي.
ويرى جاك دريدا أنّ اللغة كانت – في الحداثة المتأخرة – المرشّح الأخير للانضمام إلى هذه القائمة من المطلقات الميتافيزيقية، بوصفها نظاماً قادراً على تثبيت الدلالة، أو على الأقل حفظ أثرها. غير أنّ التفكيكية – في جوهرها – جاءت لتقويض هذا الافتراض بالذات.
فمفهوم الأثر عند دريدا لا يحيل إلى حضورٍ أصيل أو معنى مستقرّ، بل إلى بقايا حضورٍ لا يتحقق أبداً، وإلى دلالةٍ تُؤجَّل باستمرار عبر ما سمّاه الاختلاف/الإرجاء. ومن هنا فإنّ “الأثر” يقوّض المفهوم الميتافيزيقي للحضور، ويمحو معه فكرة المدلول الثابت أو المتعالي، لأنّ كل حضورٍ – في نظر دريدا – هو أثر لغياب سابق، وصدى لمعنى لا يُمسك به مباشرة.
وعلى النقيض من المقابلة الكلاسيكية بين الدال والمدلول كما صاغها فرديناند دي سوسير – والتي تقوم على وجود مدلول سابق أو متعالٍ على الدال – يرفض دريدا منح المدلول أسبقيةً أو حضوراً جوهرياً. فتصوّر سوسير لوجود مفاهيم «حاضرة خارج اللغة» يجعل الدال مجرّد وعاء ناقل لمعنى جاهز، بينما ترى التفكيكية أنّ المعنى لا يوجد خارج اللعب الدائري للدوال، وأنّ المدلول ليس سوى دالّ مؤجَّل.
وهكذا، فإنّ التفكيكية الدريدية لا تكتفي بنقد المقابلة بين الدال والمدلول، بل تفكك الأساس الميتافيزيقي الذي يقوم عليه مفهوم المدلول المتعالي، مؤكّدةً أنّ كل معنى هو أثر، وكل أثر هو اختلاف، وأنّ الحضور ذاته لا يعدو أن يكون غياباً مقنّعاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock