حمزه الحسن يكتب :هل نحن حقيقة أم آيديولوجيا؟

هل نحن كائنات حقيقية أم متخيلة؟ هل نرتبط بالواقع أم بالأساطير؟ هل نحن نفكر أم نجتر؟ التفكير انتاج معرفة والاجترار استعادة. هل نحن ذاكرة أم خيال؟ الذاكرة أرشيف والخيال مستقبل. هل نصدق قول حنة ارنديت في ان العالم الثالث ليس حقيقة بل ايديولوجيا؟ هل نحن نعيش في واقع ام في واقع متخيل؟ جرب وانت تقود سيارتك او تتحدث او تمشي ان تركز على نفسك وستكتشف ان نصفك خيال والنصف الاخر واقع لمساعدتك فقط على المشي والكلام واشياء من هذا القبيل.
في الحوار الثري بين مثقفين كبيرين هما الفيلسوف محمد أركون والفيلسوف جوزيف مايلا خبير في شؤون الشرق الأوسط والإسلام وسوسيولوجيا النزاعات،
عن احداث 11 ايلول 2001 وسقوط البرجين كما جاء في كتاب ضم هذا الحوار: “من منهاتن الى بغداد: ما وراء الخير والشر”،
يقول جوزيف إن المجتمع الاسلامي” مجتمع تخيلي Imagined community”.
أي التاريح والواقع مروي شفويا من غير توثيق متفق عليه مما يجعل التفسير الرغبي ممكناً لكل طرف وجماعة ولهذا تعدد الرواة والتفسيرات للحادثة الواحدة بين التقديس وبين التدنيس. وهذا الانشطار والانقسام لا يقتصر على تفسير حوادث التاريخ بل حوادث الحاضر وحتى وقائع اليوم الواحد والسبب هو اختلاف في قراءة الاحداث بناء على تحيزات مسبقة واهواء ورغبات ونزعات وأوهام. أي ان تفسير الحدث لا يتم من خلال الحدث نفسه بل من زاوية الرواة وما أكثرهم.
صورة الحدث ليست نفسها لدى الجميع، شخوصاً ووقائع: كيف يتوازن الانسان على هذا التشظي مع ان التاريخ جزء جوهري من الهوية العامة والشخصية؟ كيف الاتكاء على تاريخ مرتبك؟
إذا كان الانسان يعيش في مجتمع تخيلي، الصور والاعلانات والطقوس والأساطير أهم من الواقع، وفي الوقت نفسه يتحول الواقع فيه إلى أسطورة، ثم يتجه هذا الانسان في الأحلام والتوقعات والآمال نحو مستقبل وهم،
ما هي صلة وعلاقة هذا الانسان بالواقع؟ كل ما يربط مثل هذا الإنسان بالأرض هو الحذاء.
فكرة المجتمع المؤسس على الوهم أو الجماعات المتخيلة
بتعبير المفكر البريطاني بندكت أندرسن، أو مجتمع الفرجة كما في كتاب جي ديبور، أي مجتمع الصورة والاستعراض والدعاية الموازي للواقع، هذه الفكرة ليست جديدة ولكن تلوح عصية على الفهم أو التقبل:
أنت في شارع شرقي تكون الصور والاعلانات وشعارات الجدران ولوحات الفرسان والاعداء القتلى والابطال، وأخبار المآتم وعناوين طقوس الموت،
أي نصفك غارق في عالم تاريخي متخيل في الشارع، والنصف الآخر مكرس للذاكرة،
أي نصفك خيال ونصفك ذاكرة،
ماذا تبقى لك من علاقات مع الواقع بل مع نفسك؟ عندما تقول المفكرة حنة أرندنت: ” العالم الثالث ليس حقيقة بل آيديولوجيا”،
فهي لا تقول غير الحقيقة ولا يتوقف الأمر على جانب واحد ، بل أن ما يعرف بالقوى العلمانية غرقت هي الاخرى في الأوهام السياسية والفكرية والعقائدية، والأساطير العلمانية المعقلنة ــــ آيديولوجيات ـــ شائعة بقشرة علمانية،
وكما لدى المتطرف الطائفي الصلب ذهنية النفي والمحو والالغاء والتكفير، لدى اليساري العلماني كما يدعي هو الآخر ذهنية نفي وإقصاء ومحو والغاء وتخوين الآخر.
عند الاول الآخر كافر وعند الثاني عدو طبقي أو فكري أو سياسي الخ.
نحن كائنات أسطورية تعيش في تاريخ متخيل غير موثق بل سرديات شفوية رغبية، وكل طرف له رواية خاصة عن التاريخ وواقع متخيل ونحلم بمستقبل متخيل.
الجماعات المتخيلة كالقبيلة والمنظمة السياسية والاحزاب العقائدية وجماعات الاحياء السكنية والمنظمات العنيفة تحل محل الدولة والواقع الحقيقي وتفرض اوهامها واساطيرها وعلاقاتها بالقوة ومن لا يؤمن بمجتمع الوهم هو مجنون أو متمرد أو مريض يحتاج الى علاج،
وفي مجتمع من هذا النوع الضحايا هم الأسوياء والأبرياء والأصحاء ومن يملكون نظرة مستقلة للواقع والحياة.
ما هو الشر؟ بكل بساطة الشر يصدر من انعدام الضمير وهو مصدر كل انواع المساوئ والضمير يموت مثل أي عضو جسدي لكن هذا الموت لا يظهر كما في عضو خارجي بل يرتدي صاحبه أقنعة للتعويض لكنه في الداخل مسخ بشري ولو كانت المظاهر الخارجية سليمة وكل قناع انتحار وضحك على النفس لان الحياة الحقيقية غائبة.
نحن ” كائنات الغاء” بتعبير فرويد، أي نلغي الانسان من حدث واحد قد يكون تم في ظروف معقدة وتشابك صدف ومواقف غير متوقعة ونلغيه كما نفعل مع رمي سلة تفاح لمجرد وجود تفاحة فاسدة، وبالعكس نغفر لآخر قريب كل المساوئ والفظاعات ونلغيها لأن” عين الرضا عن كل شيء كليلة وعين السخط لا ترى إلا المساويا” على قول الشاعر.
الجماعات المتخيلة المؤسسة على الاساطير وواقع متخيل لا تعيش الحياة بل في نظريات وأوهام وطقوس واحتفالات تخفي الواقع الحقيقي وللانصاف ان عواصف الاقتلاع الخارجية من قوى دولية واقليمية جعلت الناس يتشبثون بالجذور بصرف النظر عن الخطأ والصواب لان كل عاصفة اقتلاع تخلق عاصفة تمسك في الطبيعة وفي المجتمع. لكن هذا التشبث لو تحول الى قاعدة حياة سيكون سجناً وثكنة وحالة حصار وقد يكون مفيدا في مرحلة عابرة خلال الازمات العنيفة المهددة.
يمكن حجب الواقع الحقيقي بالصور والخطابات والاحتفالات والقوة والمال والسلاح لكي يظهر الواقع السطحي على انه هو الواقع الحقيقي.
لذلك تتجنب الرواية سطح الواقع الى ما بعده وما يخفيه. الذين يعتقدون انهم يرون الواقع امامهم يعيشون في وهم لان هذا سطح الواقع ونحن لا ندرك سوى الظواهر كما يرى السجناء عبر النوافذ ظلال الواقع بينما الواقع الحقيقي محجوباً عنهم.
الواقع مثل اي كائن بشري يختفي ويحتجب ويتقنع ويظهر عكس حقيقته.
الواقع يختفي ليس عن من يؤيدونه فحسب بل حتى عن من يعارضونه ولا يكتشف إلا في البحث والتأمل والأسئلة لكن الثقافة السياسية الباهتة الانشائية أوقعت الناس في وهم ان الواقع هو الظاهر وخلقت رؤية وقناعة مزيفة صدمت الناس في مراحل غير متوقعة من خارج هذا المنطق التبسيطي.









