كتاب وشعراء

رسالة بين الشوق والغياب وقصة طفلة/ “بقلم الكاتبة: عهود عبدة المصري اليمن

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

بعد السلام الذي لا يشبه إلا ظلك، وبعد شوقًا يتدلى من أهداب الليل حتى صدري، أكتب لك لا لأجيبك فقط، بل لأتدلى من حرفك كما تتدلى الروح من قلبًا تحبه، تقول إنك اشتقت لي قبل الشوق وبعده وما بينهما، وأنا ما عرفتُ معنى النبض إلا حين غبت، وما فهمتُ خطيئة الهوى إلا عندما صار اسمك يوجعني أكثر مما يطمئنني ببعدك.

الشوق لي ليس مرضًا تُصاب به وحدك؛ أنا أيضًا أتنفسك وكأنك دفعة الهواء التي تعيدني إلى الحياة، أشتاقك حتى أكاد أُخاصم نفسي، أفتقدك حتى يضيق العالم علي، وأحتاجك كما تحتاج يدًا مبتورة لظلها، وكما يحتاج المطر لسماءٍ لا تخونه، أتظن أنك وحدك الموجوع؟ لا أنا يا غيث أتكسر كل مساء عليك، أراك في قهوتي، في نافذتي، في طريقي، وفي الصمت الذي لا يسمعه سواي.

غيثي الغياب لم يكن يومًا مسافة، الغياب هو اختبار لنا؛ أن أبحث عن رسائلك فلا أجدها، أن أنتظر صوتك فلا يأتي، وأن أُقنع نفسي كل ليلة أن الفقد قدرٌ، وأن الصبر عبادة، وأنك سترجع، كنت تقول إن الغربة موتٌ يُضاف إلى موتي، ولكنني يا غيث لم أمت أنا فقط أصبحت أعيش بنصف روح، ونصف حكاية، ونصف امرأة كانت تضحك حين تقول اسمك، أتعلم؟ أحيانًا أشعر أني أقف على قدمي، لكن الحقيقة أني أقف على جمر، وأحيانًا أتنفس لكن الهواء ثقيل؛ وكأن الكون كله يضغط على صدري ويقول: “اصبري فالشوق امتحانًا لمن يُحب حقًا.”

هالة لم تكن فتاةً عادية يا غيث؛ كانت تضحك كأن العالم وُلد الآن، وكانت تمشي كفراشة لا تعرف في الأرض إلا اللعب والركض والخبز الحار أمام بيتهم، كانت تحلم، لم تكن تحلم بالكثير، كانت تريد حقيبة مدرسية جديدة بلون السماء، وفرشاة شعر عليها رسمة قطة، وكانت تقول دائمًا: “أكبر وأصير معلمة وأجيب لأمي بيتًا كبير”، لكن الحياة يا غيث لا تُعطي الضعفاء فرصة ليكبروا.

في ليلة باردة جلس الأب على بساط قديم، وتحدث الرجال قالوا: “البنت تُزوج قبل أن تكبر؛ خيرًا لها وسترًا لأهلها”، وأُطفئت حياة هالة بالتمام كما تُطفأ شمعة لم تكمل أغنيتها.

لم يكن عقد قران كان عقد بيع، كان توقيعًا على قتلًا مؤجل، كان جهلًا يمشي على قدمين.

تزوجت طفلة، وطفلة مثلها لا تعرف معنى الزواج، ولا تعرف أن الليل ثقيل، ولا أن الرجل الذي يكبرها بعشرين عامًا، ليس أبًا ولا أخًا ولا حكاية، كانت تبكي ليلًا وتنام على الأرض، تضم لعبتها الصغيرة التي اخذتها سرًا وتقول:” أريد أمي أريد غرفتي”.

وفي ليلة المخاض، في ليلة أكبر من عمرها، وأقسى من قلب أبيها صرخت صرخةً لم يسمعها إلا الله، لأن الصراخ ياغيث لا يصل إلى الجدران التي لا ترحم جسدها الصغير لم يحتمل، وقلبها توقف قبل أن يكمل طفولته، وماتت هالة، ومات معها كل شيء جميل في القرية.

وهل هناك لغة تستطيع أن تشرح الشوق الذي في صدري؟ أنا أشتاقك بطريقة لا تليق بالبشر، أشتاقك كأنك الأمان والنجاة، وكأني خُلقت لأكون في ظلك فقط.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock