رسالة شوق وغربة وصدى الطفولة المكسورة …….بقلم الكاتبة هيأ المكردي/اليمن*

*
قد حملتني أنفاسك في رسالتك، وغاصت بي بين الأمواج والسماء، حتى شعرتُ أن قلبي يسبح في بحرٍ لا قرار له، وأن روحي تذوب بين أمواج شوقك
اشتقتُ لك كما تشتاق الأرض إلى المطر بعد طول صحراء، وكما يحنّ الليل إلى نجومه حين يغيب القمر، وكأن كل جزءٍ مني يتوق إليك بصمتٍ مرير
كل لحظةٍ بدونك ثقيلة، وكل كلمةٍ منك تعانق روحي فتتفجّر بالحنين، حتى صارت الذكريات معك وطنًا أهرب إليه حين تغمرني الوحدة
ويا قلبي أشعلتَ شوقُك فيّ نارًا لا تنطفئ، واستحوذتَ على قلبي كما يستحوذ البحر على رمال الشاطئ، وأنت في قلبي كنجمٍ يضيء لياليَّ الطويلة
أشتاق إليك بكل حرف، وبكل نبضةٍ من نبضات دمي، فأنت أنفاسي، وطريقي، ووطني، وحلمي الذي يتحرّك في كل آن
أما عن الغربة يا غيث، فهي ليست مجرد فَرْقِ مسافات، بل شعورٌ يلتهم القلب ويترك الروح عاريةً من دفء الحياة
أعيش هنا بين أصوات الغرباء، أسمع الضحكات وأراك في كل وجهٍ غريب، وأتنفّس وحدتي كما أتنفّس هواءً ثقيلًا مشبعًا بالغربة، كأن كل خطوةٍ تسحب مني شيئًا من روحي
أقف على نوافذ الشوق، أُنتظر أن يحملني نسيمك إليك، لكن المسافات بلا رحمة، والليالي بلا صديق سوى ذكراك التي تهمس في قلبي وتعيد إليّ الحياة حين أظنها غابت
في كل شبرٍ من صمتك، أشعر أنني أمسك حافة الوقت، وأُخفي في قلبي كل كلمةٍ منك كما تُخفى اللؤلؤة في أعماق البحر، وأتنفّسك في كل نبضة، حتى صار وجودك يسكن كياني كله
أما الطفلة هالة، فهي زهرة صغيرة في عمر الثالثة عشرة، لم تعرف من الزواج إلا اسمه، ولم تذُق طفولتها كما يحلم بها كل قلبٍ بريء.
أُجبرت على الزواج من رجلٍ يكبرها بعشرين سنة قبل أن تفهم معنى الحب أو تختار مصيرها، فصارت روحها طفلةً في جسدٍ كبير لا يحتمل أحلامها الصغيرة
عاشت هالة كل يوم كجبلٍ من الألم، وكل نبضةٍ في قلبها صرخةٌ صامتة للحق في طفولتها المسلوبة، وكل حلمٍ بسيطٍ بالمدرسة واللعب والضحك صار مستحيلًا
وعندما حانت ساعةُ الحمل، كان جسدها ضعيفًا وروحها لم تنضج بعد، فغادرت الحياة أثناء المخاض، تاركةً فراغًا لا يملؤه أحد، ومأساةً تقطع القلب
أمها تمزّق قلبها عندما رأت طفلتها تُزَفّ إلى القبر بدل أن تفرح في الحديقة وتضحك ببراءة
وكل والدٍ أو شاهدٍ أو شريكٍ في عقد الزواج كان شريكًا في هذه الجريمة بحق الطفولة وحق الحياة
المال، والجهل، والظروف… كلهم شركاء في جورٍ لا يُغتفر
كانت هالة تحمل حلمًا بسيطًا: المدرسة، واللعب، والضحكات، والأمان
لكنها لم تعش لتُحققه، وغادرت تاركةً صرخة في قلب كل من يعرف معنى الطفولة وحقها
وأما أنا فأشتاق إليك كما يشتاق القلب إلى الأمان، وأعيش على ذكراك حتى يأتي اليوم الذي نكون فيه قريبين، بعيدًا عن الغربة والفقد، حيث نملك ما سُرق منا من براءة، وحب، وحياة
يا غيث…
في كل خطوةٍ أتخذها هنا، أشعر بثقل الغياب، وثقل ما تركتَ خلفه من فراغٍ في قلبي، لكنني اخترتُ الصبر، وجعلتُ من ذكراك قوةً تحميني، ومن شوقي لك صرحًا لا ينهار
هالة علّمتني كم هو قاسٍ هذا العالم على البريء، وعلّمتني أن لا شيء أغلى من الحرية والاختيار، حتى في الحب وحتى في الحياة
فابْقَ معي في قلبي كما أنا معك في روحك، واعتبر هذه الغربة مجرد اختبار، والفقد مجرد درس إلى أن نلتقي، ونصنع عالمنا حيث الطفولة والبراءة والحب والأمان يعيشون معنا أبدًا.









