لَيْلَةُ السُّقُوط…….بقلم نوميديا جروفي

كانت الليلةُ أثقل من صدرٍ مكسور والمدينةُ غارقة في صمتٍ يشبه مقابر بلا أسماء.
الظلام يلتفّ حولها كأنه يعرف شيئًا تخشاه، شيئا لا تقوى على مواجهته،ومن بين ظلال غرفتها كانت تسمع أصواتًا تشبه حفيف أوراقٍ يابسة لكن لا وجود لِشجرةٍ قريبة.
كانت الأصوات تأتي من الداخل، من قلبها تمامًا.
في تلك الليلة، جلست على الأرض ووضعت رأسها بين يديها،
وأحسّت بأنّ شيئًا ما بدأ يتداعى داخل صدرها، يتفتّت كما تتفتّت الأعصاب تحت الضغط،كانت تعرف أن يومًا كهذا سيأتي، لكنها لم تتخيل أنه سيكون بهذه القسوة.
لم يكن الألم في وحدتها،بل في اكتشاف أن كل الذين أحاطوا بها لا وجود لهم حقًا،كانوا ظلالًا صنعتها شمس ثقتها،فلما غابت الشمس اختفت الظلال كأنها لم تكن.
بدأت ترى وجوههم في المرآة المقابلة لها:
وجوهٌ بلا ملامح واضحة،بلا أعينٍ حقيقية،مجرد أقنعة معلّقة على فراغ.
كانت المرآة ترتجف وكأنّ الحقيقة تخرج منها مثل كائنٍ جائع.
رأتهم يسقطون واحدًا تلو الآخر،يسقطون من علوّ وهمهم كما تسقط الأوراق اليابسة من أغصانٍ ميتة منذ زمن.
لكن السقوط لم يكن صامتًا،كان يصدر صوتًا كصرخات مكتومة كأنّ كل سقوطٍ منهم يمزّق جزءًا من ذاكرتها.
مَن وعدها يومًا بالبقاء سقط أولًا وصوت سقوطه كان مثل ارتطام حجرٍ على قبرٍ قديم.
ومن بعده سقط مَن كانت تظنه أمانًا، تحوّل وجهه إلى غبارٍ يتلاشى مع أقل نسمة.
ثم سقط الباقون، سقطوا كأنّ خريفًا لئيمًا يعصف بحديقةٍ مهجورة.
اقتربت من المرآة،فرأت أنّ الوجوه التي تهاوت لم تكن وجوهًا لبشر،بل أقنعةٌ ملطّخة بابتساماتٍ مزيفة.
كانت تشعر بشيءٍ يختنق داخلها،كأنّ رئتيها امتلأتا بورقٍ ميت.
ولأول مرة،لم تشعر بالخوف منهم بل بالقرف.
كم كانت عمياءَ حين صدّقتهم.
كم كانت ساذجة وهي تحملهم فوق رأسها كتيجانٍ مصنوعة من ذهبٍ زائف.
كل من سقطوا تلك الليلة كانوا في حقيقتهم فراغًا، فراغًا يلبس شكل إنسان.
وفجأةانكسر زجاج المرآة بانفجارٍ خافت وتناثر أمامها على الأرض كنجومٍ ميتة.
نظرت إلى الشظايا ورأت وجهها فيها،لكنه كان مختلفًا.
كان أكثر صلابة،أكثر قسوة،أكثر وعياً بأنّها عاشت سنواتٍ بين وحوشٍ لطيفة الملامح.
في تلك اللحظة، فهمت:
ما كان يسقط داخلها ليس خيبة،بل السمّ الذي دسّوه في روحها لسنوات.
نهضت ببطء،ومسحت على فوضى شعرها كمن يعود من حربٍ لم يخسر فيها،بل تعلّم القتال أخيرًا.
فتحت النافذة،وتركت الريح الباردة تدخل تحمل معها أصوات أوراقٍ تتساقط من الأشجار البعيدة.
ضحكت ضحكةً صغيرة ثم همست بصوتٍ لم ترتجف فيه ذرة:
“سقوطكم لم يؤلمني،الذي يؤلمني أنني سمحت لكم بالصعود.”
ومع حلول الفجر،لم يبقَ في حياتها أحد لكنها لم تشعر بالوحدة،بل شعرت بأنها تطهّرت أخيرًا من كل الأشباح التي كانت تسمّيها “أصدقاء”.
هكذا بدأت قصتها مع الحقيقة،قصة امرأةٍ لم تعد تخشى الخريف،لأنها عرفت:
لا يسقط في الخريف إلا ما كان ميتًا منذ زمن.









