محمد شهود يكتب :الشرق الأوسط في وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركية – إدارة ترمب (قراءة 2)

في وثيقة ال 33 صفحة، يشير التقسيم الإقليمي لدلالة مهمة.. إذ يضم جدول محتويات الوثيقة؛ نصف الكرة الغربي ثم آسيا ثم أوروبا ثم الشرق الأوسط (من نهاية ص27 حتى منتصف 29) وأخيرا أفريقيا.
المشكلة الرئيسية ليست في المساحة والترتيب قطعا، فالأوروبيون نالهم نصيب ضئيل والإشارات اللغوية والمنهجية تخيفهم أكثر من منطقتنا.
—
لا تترك إدارة ترمب للقارئ وقتاً طويلاً لالتقاط مقصدها؛ فالقسم المخصص للمنطقة جاء بعنوان مباشر لا يحتمل التأويل “الشرق الأوسط: نقل الأعباء وبناء السلام”. العنوان الذي يحمل مفتاح قراءة؛ يحدد سقف الانخراط الأميركي وشكله، ويضع المنطقة فوراً ضمن فلسفة أوسع ترى أن زمن الالتزام المفتوح قد انتهى، وأن المطلوب هو هندسة توازنات تسمح لواشنطن بتقليل الكلفة، (لا بتصفير الحضور.)
اللافت – قبل الدخول في تفاصيل هذا القسم – أن الوثيقة تضع نفسها ضمن سياق مألوف منذ عهد أوباما:: حلم أميركي مستمر بالخروج التدريجي من استنزاف الشرق الأوسط للتفرغ لما سُمي “التمحور نحو آسيا”. الفكرة القديمة كانت أن مركز الثقل العالمي يتحرك شرقاً، وأن واشنطن لا تستطيع البقاء أسيرة أزمات لا تنتهي.
لكن كل محاولة (أوباما/ترمب/بايدن..) لتقليل الوجود والانخراط كانت تصطدم بحقائق المنطقة وصدمات جديدة إما بانهيارات أمنية، وصعود جماعات مسلحة، وسباقات نفوذ، وموجات تصعيد تجر الولايات المتحدة مجددا إلى دوامة الانخراط.
استراتيجية 2025 تحاول أن تكسر هذه الحلقة، لا عبر انسحاب درامي، بل عبر إعادة تعريف أسباب الاهتمام الأميركي بالمنطقة وتخفيضها إلى منطق أكثر برودة وروتينية. فهي تقر بأن الشرق الأوسط حظي لعقود بالأولوية لثلاثة أسباب:
1- الطاقة.
2- ساحة التنافس بين القوى الكبرى.
3- خطر تمدد الصراعات إلى العالم وحتى إلى السواحل الأميركية.
ثم تقول إن اثنين من هذه الدوافع تراجعا.. وهنا الإشارة للطاقة، إذ تنوعت مصادر الطاقة، وعادت الولايات المتحدة مُصدرا صافياً للطاقة، كما أن التنافس بين القوى الكبرى بات “مناكفة” تحافظ فيها واشنطن على موقع مريح مدعوم بإحياء التحالفات في الخليج ومع شركاء عرب ومع إسرائيل.
أما الدافع الثالث ــ الصراع ــ فتتعامل معه الوثيقة بمنطق “خفض حرارة الإقليم” لا تضخيمه. فهي ترى أن العناوين الصاخبة قد توحي بعكس ذلك، لكن إيران بوصفها القوة الأشد زعزعة قد تعرضت لانتكاس كبير بفعل “إجراءات” إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023، ثم عملية ترمب في يونيو 2025 التي تقول الوثيقة إنها أضعفت البرنامج النووي الإيراني بدرجة معتبرة. كما تربط الوثيقة بين وقف إطلاق النار وإطلاق الرهائن في غزة وبين فتح نافذة نحو “سلام أكثر ديمومة”، وتشير إلى تراجع زخم داعمي حماس.
وحول سوريا، تلمح إلى أن دمشق ــ بدعم أميركي وعربي وإسرائيلي وتركي ــ قد تعود لاعبا “إيجابياً” في الإقليم، مع ترك مساحة لاحتمالية أن تظل ملفا “معقدا”.
ذُكرت إيران ثلاث مرات فقط وهذا يتناقض مع استراتيجية عام 2022، حيث ذُكرت 7 مرات، ومع استراتيجية عام 2017، حيث ذُكرت 17 مرة، بحسب الباحث جيسون برودسكي.
الجملة الأكثر كشفاً هنا ليست المتعلقة بإيران أو غزة بقدر ما هي المتعلقة بـاقتصاد السياسة الأميركية للمنطقة. فالوثيقة تقول بوضوح إن السبب التاريخي الأهم للتركيز الأميركي على الشرق الأوسط سيتراجع مع تخفيف القيود على سياسات الطاقة وارتفاع الإنتاج الأميركي. وبديلاً عن مركزية النفط، تتطلع إلى شرق أوسط يُقرأ كـمساحة استثمار وتكنولوجيا في مجالات تتجاوز النفط والغاز، مثل الطاقة النووية والذكاء الاصطناعي وتقنيات الدفاع.









