رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :أقاصي الليل

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا


ـــ أنا الخشبة الحية التي مرّ فوقها عدة ممثلين يلعبون ادوارا ًمسرحية كثيرة. * فرناندو بيسوا
كانت هدية غير متوقعة العثور على رواية جديدة للروائي الفرنسي المثير للجدل لويس فرديناند سيلين وهي رواية” موت بالتقسيط” بعد روايته الشهيرة ” رحلة الى أقاصي الليل” التي اعتبرت ثورة في اللغة الفرنسية رغم التهم الكثيرة التي تعرض لها ومنها معاداة السامية وسواء اتفق القارئ مع سيلين ام لا لكن لغته وحدها سفر ممتع من الجمال والبهاء والبساطة كطفل يروي حكاية وحتى الذين اختلفوا معه تأثروا بلغة سيلين.
في روايته” موت بالتقسيط” فسرها اليساريون بأنها هجاء لليسار الفرنسي في حين فسرها آخرون انها تمهيد للنازية مع انه قال انه يفضل السلام على الحرب لكن تلك كانت الذهنية الفرنسية الغارقة في الثنائيات ــــــــــــ كما نحن الآن ــــــــــــ وسيكتشف الفرنسيون بعد سنوات ان سيلين كتب الموت بالتقسيط كسيرة ذاتية عن سلسلة خيبات شخصية والسوداوية الظاهرة في الرواية لا علاقة لها بالسياسة بل نتيجة موت وانتحار أقرب الأصدقاء وخاصة الفتاة نورا الانكليزية التي ارتبط بها بعلاقة ثم انتحار صديقه الحميم كورتيال دي بيريار.
كتب الشاعر الروسي يفغيني يفتوشينكو الصوت المدوي في المرحلة الستالينية: ” نحن لا نشيخ بفعل الشيخوخة ولا بسبب ما عشناه من سنوات، بل نشيخ من جرّاء التعب، وبسبب الآثام والإهانات. بفعل الحزن والقدر المحتوم،وبفعل حب لم يكتب له النجاح، بسبب فقدان الأمل في هذي الحياة،
وبسبب ذلك الصخب اليومي. بسبب الهموم التي تتضاعف وحسب،
والمشاكل التي لا حلَّ لها.نحن نشيخ قبل الأوان،لأن أرواحنا تصاب باليأس والإحباط”.
لم يهاجم روائي في القرن العشرين كما هوجم الروائي الفرنسي لويس فرديناند سيلين، رغم أنه كان يعيش في عزلة عن النخبة الفرنسية ومات وحيداً في ضواحي باريس بالقرب من زوجته واتهم بمعاداة السامية مع حملات تشهير ومطاردة بسبب روايته” رحلة الى أقاصي الليل” وترجمة عربية أخرى بعنوان” رحلة في آخر الليل”.
كان ليون تروتسكي الوحيد من بين تلك الاصوات وهو يهودي ولم يجد فيها معاداة للسامية الذي قالها بوضوح :
” بينما يمضي فيرديناند سيلين في طريقه إلى الأدب، يمضي الآخرون إلى منازلهم”،
وكان تروتسكي مفكراً وقائداً للجيش الأحمر خلال ثورة اكتوبر 1917 ونفاه ستالين ثم أغتيل في المكسيك عام 1940 من قبل عميل في المخابرات السوفيتية الــــ كي .جي. بي.
كان تروتسكي قد طلب من زوجته قبل الاغتيال بلحظات احضار الحلاق وعندما هوت فأس القاتل لامون ميركادير على رأسمه من الخلف قال لها آخر عبارة وهو يحتضر مازحاً:
” لا حاجة لذلك، لقد جاء الحلاق”.
رواية عبقري الرواية الكوبية ليوناردو بادورا” الرجل الذي كان يحب الكلاب” سيرة مثيرة لتاريخ القرن العشرين من خلال شخصية تروتسكي دون اللغة الخطابية الشعاراتية التي ترافق الاعمال الادبية لأن السياسة في الرواية كطلقة مسدس في حفل موسيقي حسب وصف ستاندال في روايته” صومعة بورما”.
المفارقة أن الثلاثة الكبار الذين أوغلوا في لعن سيلين وهم البير كامو،
وسارتر، وسيمون دي بوفوار، وهم أعمدة الثقافة الفرنسية في تلك الفترة،
هم أنفسهم اعترفوا في ممارسة سيلين دوراً كبيراً في تغيير لغة الكتابة كما لو ان لغة سيلين،
التي تعتبر ثورة في الثقافة الفرنسية وهي لغة تتسم بالحيوية والعفوية والرهافة والعمق والدهشة والفرادة والبساطة والجموح بلا صنعة ولا زخرفة،
قد حررت هؤلاء من لغة الفخامة والصنعة والتقعر وهزت اللغة الفرنسية الكلاسيكية.
كامو الذي احرق سيلين جاءت روايته الشهيرة” الغريب” متأثرة تماماً بلغة سيلين الطليقة والبسيطة والمتقشفة، كما لو انه حرر كامو من الصنعة والتكلف،
وسارتر الذي وصف سيلين بأقذر العبارات كان يقول إنه خلال كتابة روايته” الغثيان” كان سيلين مسيطراً عليه وكان يحلم بشخصية سيلينية.
وسيمون دي بوفوار التي لم تترك في سيلين مساحة إلا وأوغلت فيها شتماً وحرقاً تعترف في النهاية إنهم كانوا يحفظون مقاطع كاملة عن ظهر قلب لروايته” رحلة في أقاصي الليل”،
التي تعتبر ثورة في اللغة مع أن سيلين لم يكن يطمح بأكثر من أن يكتب كما يحب وهذه الرواية هي سيرته الذاتية في الحرب،
ونقد الرأسمالية وطفولته وعالم الضواحي والمهمشين، وكانت قد مهدت لرواية أخرى: “موت بالتقسيط”.
رغم ذلك لكن سيلين كان واثقا جدا من نفسه وقال عند تسليم روايته للناشر:
” ستكون بمثابة الخبز لقرن كامل من الأدب”.
وهذا ما حدث فعلاً وكثير من قراء سيلين اليوم يقولون كيف لم نكن نرى الحياة بهذا الوضوح؟ لكي ترى الحياة بهذا الوضوح تحتاج الى رؤية صافية ونظرة طفولية وبلا تحيزات مسبقة لانها حجاب والى ضمير حي.
عن روايته رحلة في أقاصي الليل يقول إنها حكاية عن الأكاذيب وضروب القسوة، عن عبثية الحياة وبشاعة الانسان بالأقنعة والأكاذيب،
وسيلين بارع في نزع الأقنعة،
ومثل أي طفل يرى الحياة مباشرة في عريها الواضح بلا نظارات ولا قناعات مسبقة، وعندما سئُل عن خلفية روايته رحلة الى أقاصي الليل قال بلغة طفل:
” ما هي خلفية هذه الحكاية كلها؟ لست أدري. ما من أحد فهم هذه الخلفية. مع ذلك أقول لكم ببساطة: إنها الحب الذي لا نجرؤ على التحدث
عنه وسط هذا الجحيم”.
مات سيلين وحيداً عام 1961 وهو طبيب، لكن في العام 2011 أعادت فرنسا له
الاعتبار وكانت تلك سنة سيلين بعد مرور قرن على ولادته لأن الأدب الحقيقي غير مرتبط بالزمان بل بالاصالة.
في عام 2021 وبعد 60 سنة على وفاته كانت مفاجأة نشر رواية له جديدة بعنوان ” لندن” من 500 صفحة ونشرت في العربية بعنوان” حكاية لزمن آخر” عن دار غاليمار الشهيرة واعتبرت حدثاً أدبياً كما لو ان سيلين بعث حيّاً وهي نوع من التخيل الذاتي والسيرة. كانت حقا حكاية لزمن آخر.
أحب سيلين راقصة الباليه الأمريكية اليزابيت كريغ وأهدى لها روايته رحلة في اقاصي الليل:
” ” إلى اليزابيت كريغ:
حياتنا سفرــ في الشتاء وفي الليل، نبحث عن معبر لنا،
في السماء حيث لا شيء يلمع”.
يعترف هو في كتابات كثيرة ان كريغ لعبت دوراً كبيراً في حياته،
وفي تعليق صريح لها قالت رداً على سؤال لماذا رفضت الزواج منه؟:
” هذا صحيح، لكني لا أريد أن أكون امرأته العجوز، لأن سيلين لن يشيخ وأنا أهرم”.
كانت كريغ دقيقة وصادقة لأن سيلين حتى بعد الموت عاد بقوة لتحتفل به فرنسا كعبقري شوهوا حياته وظل واثقا من نفسه حتى النهاية في عزلة مضيئة احترقوا هم بها وأضاء هو عبر العصور تماما كما توقع تروتسكي بحسه الثاقب مضى الاخرون الى منازلهم واغلقوا الابواب لان احلامهم قصيرة وقريبة لكن سيلين مضى الى الادب وعبر الأزمنة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock