كتاب وشعراء

فِي قُصُورِ مَرَّاكَشَ تَحْتَ شُرُفَاتِهَا الحَمْراءْ…بقلم حيدر البرهان

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

بِقُصُورِ مَرَّاكَشَ
تَحْتَ أَسْوَارِهَا الحُمْرِ
قَادَتْنِي مِنْ يَدِي “بُهَيَّةٌ”،
حَمْرَاءُ،
بُرُونْزِيَّةٌ،
بُنِّيَّةٌ مُعْجُونَةٌ سَحْنَتُهَا بِأَلْوَانِ أَنْدَلُسِيَّةٍ.
نَعَمْ! إِنَّهَا بُهَيَّةٌ…
نَسِيمُهَا البَارِدُ يُقَرِّصُ جَسَدِي فِي الفَجْرِ…

مُطَرَّزٌ اسْمُهَا عَلَى إِجَّاصَةِ وَجْنَتَهَا،
فَمَا أَعْظَمَ البَهَاءَ الَّذِي تَحْمِلُهُ هَذِهِ المَدِينَةُ القَدِيمَةُ
هِيَ وَحَفِيدَتُهَا؟
إِنَّهَا مَرَّاكَشُ الحَمْرَاءُ!

أَرَى الجُدْرَانَ تَزْهُو بِلَوْنِ تُرَابِهَا الحِنَّاءِ،
وَرَاءَ أَسْوَارِهَا سَكَنَتْ أَجْيَالُ المُلُوكِ،
وَهَجَعَتْ بَيْنَ حَدَائِقِهَا المَلِكَاتُ.
هُنَا حَارَبَ المُلُوكُ كُلَّ الغُزَاةِ،
لَمْ يَدْخُلُوا أَسْوَارَهَا وَجِبَالَهَا الشُّمَّاءِ،
وَتَحَصَّنَتْ بِقِلَاعِهَا “سَيِّدَةُ العَبَرَاتِ”.

أَدْخُلُهَا قَادِمًا مِنْ “دَارِ السَّلَامِ”،
هَا أَنَا فِي بَاحَاتِهَا أَنَامُ!

أَنَا سَمْحٌ، مُتَمَرِّدٌ عَلَى الكَلِمَاتِ،
يَدِي مَشْدُودَةٌ بِطَرَاوَةِ وَجْهِ تِلْكَ الفَتَاةِ:
مَرَّاكُشِيَّةٌ كَانَتْ،
وَمَا زَالَتْ بَارِدَةَ النَّسِيمِ،
نَفَحَاتُهَا تُسَافِرُ فِي شَمْسِ الجَنُوبِ،
فَتَبْقَى مَجْنُونَةً وَعَرُوسًا…
مُغَنِّيَةٌ وَمُوَشَّحَةٌ بِأَغَانِي الأَنْدَلُسِ!

فَتَاةٌ تُمْسِكُ بِخَيْطٍ ذَهَبِيٍّ،
يَطِيرُ مِنْ نَافِذَةِ بَيْتِهَا،
تَغْزِلُهُ وَتُخَمِّرُهُ نَبِيذًا مُعَتَّقًا فِي دِنَانِ فَخْذَيْهَا!
كُنَّا نَمْضِي فِي ضُحَى نَهَارٍ مُشْمِسٍ،
مُمْتَلِئٍ بِنَسَمَاتٍ رَبِيعِيَّةٍ…
سَأَلْتُهَا:
«مِنْ أَيْنَ جِئْتِ بِهَذَا النَّبِيذِ اللَّذِيذِ يَا بُهَيَّةُ؟»
فَأَجَابَتْ:
«اِحْتَسِ فُحْوَى العِنَبِ وَلَا تَسْأَلْ!»
وَأَمَرَتْنِي بِصَوْتٍ رَخِيمٍ، لَيِّنٍ عَذْبٍ:
«اِرْتَشِفْ نُخْبَ صَدَاقَتِنَا،
اِشْرَبْ نُخْبَ مُلُوكٍ شَيَّدُوا هَذِهِ القُصُورَ بَعْدَ سُقُوطِ غَرْنَاطَةَ،
اِشْرَبْ نُخْبَ المُرَابِطِينَ وَالمُوَحِّدِينَ،
اِشْرَبْ يَا صَدِيقِي نُخْبَ الأَنْخَابِ الأَمَازِيغِيَّةِ وَطَوَارِقِهَا وَابْنِ زِيَادٍ!»
ثُمَّ هَمَسَتْ فِي أُذُنِي بِكَلِمَاتٍ نَاعِمَاتٍ،
لَمْ أَفْهَمْ غَيْرَ مُفْرَدَةٍ وَاحِدَةٍ: الحُبُّ!
هِيَ: «اِشْرَبْ نُخْبَ الحُبِّ»…
لَكِنَّ الرِّيحَ كَانَتْ قَادِمَةً مِنْ بَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ، فَخَطَفَتْهَا نَحوَ الصَّحْرَاءِ المَغْرِبِيَّةِ وَرِمَالِهَا…
فَقُلْتُ: «إِذًا نَشْرَبُ نُخْبَ الأَنْخَابِ لِلصَّحْرَاءِ المَغْرِبِيَّةِ العَرَبِيَّةِ!»

لَكِنَّ نِيَّتِي كَانَتْ بُهَيَّةً،
صَادِقَةً، بَاقِيَةً عَلَى الحُبِّ وَالعَهْدِ.

شَعَرْتُ أَنِّي هُنَا الأَمِيرُ، أَقْرَأُ بِاسْمِ البَهْجَةِ مَعَالِمَ الأَزِقَّةِ،
أَخْطُو فِي الطُّرُقَاتِ الضَّيِّقَةِ بِلِينٍ كَخُدُودِ الصَّحْرَاوِيَّاتِ.

ذَهَبْتُ إِلَى التَّارِيخِ هُنَا فِي قَصْرِ البَاهِيَةِ،
أُسَمِّيهَا «مَدِينَةَ الأَسْحَارِ»،
هِيَ مَرَّاكَشُ الفُقَرَاءِ وَالأَغْنِيَاءِ:
سُيَّاحٌ لَا يَفْقَهُونَ عَنْهَا شَيْئًا
غَيْرَ سَاحَةِ الفَنَاءِ فِي سُوقِ الجُمُعَةِ،
وَالسِّحْرِ، وَالطَّعَامِ!
لَا يَعْرِفُونَ أَسْوَارَهَا الحُمْرَ،
مُلُوكَهَا ……

إِذًا،
أَنَا هُنَا آلُوكُ البُرْتُقَالَ خَلْفَ أَسْوَارِ المُلُوكِ وَالمَمَالِكِ وَالقُصُورِ، وَالمَمَرَّاتِ الأَلِيفَةِ.
هُنَا سَكَنُوا،
هُنَا اسْتَقَرُّوا، وَتَعَبَّدُوا،
هُنَا اقْتَتَلُوا، هُنَا قَاوَمُوا جُيُوشَ «أُورُوبَّا»،
هُنَا مَعَابِدُهُمْ، مَقَابِرُهُمْ، هُنَا الحُكَمَاءُ وَالزُّهَّادُ،
هُنَا فَصَاحَةُ شِعْرٍ،
وَأَغَانِي الأَنْدَلُسِ…

يَا طَيْرَ القَطَا! يَا صَدِيقِي،
أَمُحْظُوظٌ أَنَا؟
هُنَا تَمَدَّدْتُ عَلَى أَسْوَارِهَا الجَامِحَةِ كَخُيُولٍ،
وَسَرْبُ القَطَا يَحْمِلُ المَاءَ وَيَسْقِينِي…
سَعِيدٌ!
سَعِيدٌ!
سَعِيدٌ جِدًّا أَنَا هُنَا!
لَا أَحَدَ يَعْرِفُ صَدَاقَتِي مَعَ سِرْبِ القَطَا فِي صَيْفِ المَدَائِنِ…
لَا أَحَدَ!

ثُمَّ،
ثُمَّ عَادَتْ يَا إِلَهِي!
عَادَتْ إِلَيَّ…
عَادَتْ أَسْرَابُ القَطَا بِي إِلَى الجَنُوبِ،
إِلَى سِنِينَ القُرَى،
وَالأَرْيَافِ، إِلَى بُسْتَانِ أَبِي الأَخْضَرِ عَلَى شَاطِئِ نَهْرِ الفُرَاتِ، إِلَى ضِفَافِ نَهْرِ القَوَارِبِ الخَشَبِيَّةِ، إِلَى حَيِّ النَّجَّاجِيرِ..

هَلْ حَصَّنْتُ أَقْرَانِي قَبْلَ الرَّحِيلِ وَالطَّوَافِ؟
لَا أَعْلَمُ! رُبَّمَا انْتَهَى بِهِمُ المَطَافُ فِي سُجُونِ الطُّغَاةِ،
أَوْ رُبَّمَا رَاحُوا ضَحِيَّةَ حُرُوبٍ طَائِشَةٍ صَنَعَهَا طَاغِيَةُ بَغْدَادَ، أَوْ فِي سُجُونِ الغُزَاةِ عَامَ ٢٠٠٣.
فِي الحَقِيقَةِ أَنَا لَا أَعْلَمُ! لَقَدْ كُنْتُ مُشَرَّدًا فِي المَنْفَى، أَبْحَثُ عَنْ مَأْوًى، فَجِئْتُ إِلَى بِلاَدِ المَغْرِبِ أَبْحَثُ عَنِ المَهْدِيِّ بْنِ بَرْكَةَ، وَعَنِ الخُبْزِ الحَافِي، وَمُحَمَّدٍ شُكْرِيٍّ. ثُمَّ أُرِيدُ أَنْ أَسْرُدَ مَا حَلَّ بِنَا نَحْنُ أَحْفَادِ كِلْكَامِش!
الآنَ أَقْرَأُ مَا حَدَثَ فِي هَذِهِ البِلَادِ وَلَا أَعْلَمُ، لَكِنِّي أَتَعَلَّمُ،
وَأَتَسَلَّقُ جِبَالَ أُوكَايْمِدِينَ فِي الشِّتَاءِ،
حَيْثُ الثَّلْجُ يُغَطِّي التِّلَالَ بِالبَيَاضِ.

إِذًا، هُنَا عَلَى بَاحَةِ بِلَاطِ القَصْرِ نِمْتُ،
لَكِنَّ يَدًا مِنْ خَلْفِ الأَسْوَارِ تَقُودُنِي نَحْوَ جُرْحِ الأَنْدَلُسِيِّ:
اليَدُ مَا زَالَتْ تُمْسِكُ بِي عِنْدَ الأَبْوَابِ،
كَانَتْ يَدَ صَدِيقَتِي بُهَيَّةَ،
وَالْمَلِكَةِ عِشْتَارَ الشَّقِيَّةِ صَاحِبَةِ قِيثَارَةِ أُورٍ!
الآنَ نَجَوْتُ مِنَ الأَضْغَاثِ…
……

أَطُوفُ حَوْلَ جُدْرَانٍ عَالِيَةٍ تُعَشْعِشُ فِيهَا اللَّقَالِقُ وَالنُّسُورُ.

فِي غُرَفِ القَصْرِ،
أَشُمُّ رَائِحَةَ بَخُورٍ أَنْدَلُسِيٍّ،
رَائِحَةَ عُشْبٍ قُرْطُبِيٍّ،
رَائِحَةَ تَارِيخٍ أَمَازِيعِيٍّ!
هُنَا أَحْبِسُ الأَنْفَاسَ فِي غُرَفٍ مُزَخْرَفَةٍ:
عَقِيقٌ يَمَانِيٌّ أَحْمَرُ يَلْمَعُ فِي السُّقُوفِ! رُبَّمَا…
نَوَافِذٌ مُحْكَمَةٌ، أَخْشَابُهَا مِنْ جُذُورِ أَشْجَارِ الجِبَالِ.
أَنَا هُنَا فِي حَضْرَةِ المُلُوكِ وَاللَّقَالِقِ وَالنُّسُورِ!
هَلْ أُغَادِرُ التَّارِيخَ
وَأَعُودُ إِلَى ضَجِيجِ الشَّوَارِعِ الصَّاخِبَةِ
وَرَاءَ الأَسْوَارِ؟

لَا! لَا! لَا! لَا!
غَيَّرْتُ فِكْرَتِي،
وَذَهَبْتُ أُغَازِلُ السَّعْدِيِّينَ فِي قَصْرِ البَدِيعِ.
رُبَّمَا أَجِدُ ضَالَّتِي! مَنْ يَعْرِفُ؟ مَنْ يَعْلَمُ؟

دَخَلْتُ قَصْرَ البَدِيعِ،
وَكُنْتُ أَشْتَكِي مِنَ الجَفَافِ وَالظَّمَأِ،
فَعَثَرْتُ عَلَى يَنْبُوعٍ يَتَدَفَّقُ مِنْ حَلَمَةِ فَخَّارِ نَافُورَةِ البَاحَةِ.
هَا أَنَا قَدْ رَوِيتُ!
بَعْدَ هَزِيعِ الحُرُوبِ وَالمَنَافِي،
أَحَسُّ أَنِّي اهْتَدَيْتُ:
سَأَدْخُلُ بَابَ البَدِيعِ كَطَائِرِ الفِينِيقِ،
ثُمَّ أَخَذْتُ أَطِيرُ فِي فَضَاءَاتِ الغُرَفِ!
كَمْ كَانَ مُبْدِعًا أَحْمَدُ المَنْصُورِ الذَّهَبِيُّ*
فِي بِنَاءِ تَارِيخِ مَرَّاكَشَ!
رُبَّمَا كَانَتْ نَشْوَةُ النَّصْرِ عَلَى البُرْتُغَالِيِّينَ فِي مَعْرَكَةِ وَادِي المَخَازِنِ عَامَ ١٥٧٨…
ثُمَّ عَثَرْتُ عَلَى حَدَائِقِ أَكْدَالَ، فَأَنْهَيْتُ رِحْلَتِي،
وَنِمْتُ وَاسْتَرْخَيْتُ فِي ثَلَاثَةِ عُصُورٍ مُفْعَمَةٍ بِنَشْوَى الاحْتِفَالَاتِ وَبَهْجَةِ الغِنَاءِ المَغْرِبِيِّ. كُنْتُ أَسْمَعُ الأَلْحَانَ تَخْرُجُ مِنْ رُخَامِ البُنْيَانِ العَظِيمِ!
سَأَخْرُجُ الآنَ مِنْ بَطْنِ التَّارِيخِ،
نَحوَ السُّوقِ القَدِيمَةِ لِأَسْتَرِيحَ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock