كتاب وشعراء

إرث الألباب/ بقلم الكاتبة/ ريـان يحيي

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

خرائبٌ صامتة، دروبٌ وعرة أفقٌ متشظيّة كانت تلتفّ حول عنقه! كان يقف شابٌ أشعثُ الرأس، مُمزَّقُ الثّياب، يأكل من بقايا برميل خاوٍ، كأنّ ريحًا صرصرًا مرّت عليه فتركته هشيماً! لكن عينيه -رغم كل ذلك – كانتا تحملان وميضًا خافتًا يشبه نورًا حُبس طويلًا خلف بابٍ مغلق.
وفي صباحٍ بدا عاديًّا… لكنّه لم يكن كذلك! خرجت السّيدة مارجيت من كليّة اللّغة، فوقعت عيناها على ذلك الشّاب؛ أنس!! وكانت تلك اللّحظة أوّل خيطٍ من القدر يلتفُّ حول حكايتهما! اقتربت رغم هيئته، وسمعته يحدّث نفسه بلغةٍ إنجليزية مستقيمةٍ كأنها سطورٌ مُحكمة! ثم بإسبانيةٍ عذبةٍ كجري الماء في السّواقي! توقّف الزّمن لحظة! قالت لنفسها: كيف يجتمع هذان اللّسان بذاك الهوان؟ اقتربت منه خطوة… ثم أخرى.
مدّت يدها إليه، ولمّا مست أصابعُها جلده البارد، رفع رأسه فجأة، وفي عينيه ظلمةٌ تشبه ليالٍ لم يُرفع عنها غطاء. فقال لها بصوتٍ خافت حزين:
“ضللت… فلا هادٍ لي.” تسارعت أنفاسها. أمسكت بيده بقوّةٍ لم تعهدها في نفسها، ثم، وبشيءٍ من الجنون الذي يُوقظ القدَر: “قُم… فقد آن لك أن تُبعث من جديد.” وما إن لامست يدُها جلده، حتّى أقبل صبيٌّ نحيل، يحملُ كتابًا ممزّق الغلاف، وكان اسمه مجد؛ وقف أمام الشّاب وقال بصوتٍ ثابت: “أأنتَ من كان يشرح لنا الشّعر والموسيقى الأنيقة، أأنت من كان يقول لنا إنّ الكلمة تُحيي قلبًا وتُميت آخر؟ كيف صرت اليوم كالعصف المأكول؟»
ارتجف أنس! وغامت عيناه كأن سؤال الصّبي نبش الرّماد عن جمرةٍ ما تزال حيّة.رفع مجد الكتاب إليه، وقال:
“إن كنت نسيتَ نفسكَ فالصّفحات لم تنسَ أسماء من خطّوا عليها نورهم”! سقطت العبارة في صدره سقوط الغيث على أرضٍ عطشى. انحنى، واستند إلى يد مارجيت، ثمّ شهق شهقة الأمل والحبور كمن يُعاد إلى الحياة بعد انقطاع النَّفَس.حين همَّ مجد بالمغادرة،
قال أنس بصوتٍ خافتٍ كسجدةٍ أولى: “لقد كنتُ تائهًا…فدللْتني”!
وفي تلك اللّحظة، لم تعد الطّريقُ مقبرةً للمنكسرين، بل بوابةً لبدءٍ جديد!
ريان يحيى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock