كتاب وشعراء

عودة حياة /قصة قصيرة / بقلم الكاتبة / ذكرى غيثان/ اليمن

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا


رجل يفترش بقايا الأكـل، وحدته فتاة
سحبته بقوة من حافة برميل القمامة، تماماً كما ينتزع الطبيب الماهر أداة حادة غرست في الجسد. لم تنظر مارجيت إلى يده السوداء أو أظافره المتسخة، بل نظرت مباشرة إلى عينيه الغائبتين. كانت عيناه، رغم كل الجنون والغياب، تحملان بقايا ذكاء حاد وخيبة أمل نبيلة.
​نظرت إليه، وبصوت خفيض لا يحتمل الجدال، قالت: “أنت لست مجنونًا، أنت ضحية شيء أقوى منك.”
​في تلك اللحظة، حدث ما لم تتوقعه. لم يقاوم أو يصرخ، بل ارتجف جسده كمن صُعق بالكهرباء. سقطت كِسرة الخبز من يده، وببطء شديد، وكأن جسده قد عاد إليه بعد غياب طويل، رفع رأسه قليلاً، وركز عينيه المرهقتين عليها. ظلّت نظراتهما مُعلقة ببعضها البعض في صمت مُرعب، نظرة تفحص واستجداء، لمدة قاربت العشر دقائق لم ينطق خلالها بكلمة. لكن الدموع جفت في مكانها؛ إذ لم تعد ناراً تحرق، بل صدمة أعادت إليه الذاكرة. مسك يدها التي تمسك به بقبضة قوية، قبضة لم تُظهر القوة، بل اليأس الذي يتشبث بآخر خيط نجاة.
​همس الشاب بصوت أشبه بصدى قادم من كهف بعيد، بالإنجليزية الفصحى التي أتقنها: “هل أنتِ… هل أنتِ حقيقية؟ أم أنني ما زلت أحلم في قاع هذا البرميل المظلم؟”
​أدركت مارجيت أن هذه ليست مجرد مساعدة عابرة. إنها اللحظة التي التقت فيها الإنسانية بذاكرة مُدمرة. شعرت أن يده الغارقة في الوحل تسحب روحها نحو أعماق قصته المجهولة، قصة كان عليها أن تكتشفها مهما كان الثمن.
​عندها، لم تفكر. سحبت مفاتيح سيارتها، وقررت شيئاً مجنوناً لم تفعله في حياتها الجامعية الرتيبة: “هيا بنا! أولاً… سنستحم. ثانياً… ستتحدث. وثالثاً… ستعيد الحياة إلى اللغة التي أحببتها.”
​ولم تنتظر منه رداً. دفعت به نحو السيارة، وهي تدرك تماماً أن هذه الخطوة الجنونية قد فتحت لها باباً لم تعِ عواقبه، باباً على حياة لم تعد تشبه قواعد كليتها الرتيبة، بل أصبحت أشبه برواية تنتظر أن تُكتب.
ـــ ذكرى غيثان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock