كتاب وشعراء

التحليل الرمزي الكامل لنص «كوردستان نشيد الجبل الأخير» للشاعر الكردي السوري زكريا شيخ أحمد / بقلم محمد وليد يوسف

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

الجزء الثاني

و هو أعمق مستوى يمكن قراءته فيه.
هذه القراءة تضع الرموز في سياقها الأسطوري والوجودي والسياسي والثقافي، وتكشف كيف تشتغل داخل النص لتكوين “ملحمة” لا مجرد قصيدة.

تحليل الرموز المركزية في النص

أولاً: رمز الجبل – الأب الأول والذاكرة العليا

الجبل هو العمود المركزي في النص كله.
ليس شكلاً جغرافياً، بل كائن أول:

الذي تستند إليه الأرض
الذي يمنحها العظمة
الذي لا يُخلق ليرتاح

بهذه الصفات يشبه الجبل الإله المؤسس في الأساطير:
إنه الأب، الحامي، السقف، الظهر، الراسخ.

الدلالات التي يمنحها الشاعر للجبل:

1. الثبات مقابل تقلب التاريخ
2. القوة مقابل هشاشة الإنسان
3. الذاكرة الحافظة مقابل النسيان السياسي
4. المقاومة الصامتة: الجبال لا تتكلم، لكنها تشهد.

لذلك يقول الشاعر:
“نهض الجبل مرة أخرى… و ارتدى اسمه”
وهذا تحويل للجغرافيا إلى شخصية درامية.

ثانياً: رمز النهر – التاريخ الدموي الحركي

النهر في النص ليس ماءً:

“كان النهر ممراً للموت والبعث”

هنا يتحوّل النهر إلى تاريخ:

ممشى الشهداء
مجرى الحرية
خطّ الدم الممتد

النهر = السردية الكردية التي لا تتوقف.
فهو دموي، لكنه أيضاً ولّاد…
يقطع الزمن لكنه لا يموت.

وظيفة النهر في النص:

1. يربط الماضي بالحاضر
2. يمنح الحكاية بعداً كونياً
3. يكسر صورة “الضحية” بتحويل الألم إلى انتصار شاعري
4. يشكّل خط العبور من الألم → الهوية

ثالثاً: المرأة – الذاكرة الحافظة، الصوت الذي لا يسقط

صوت النساء في المقطع الثاني من أعمق صور النص:

“غنّت النساء أغنيةً تجعل الحجارة تبكي

المرأة ليست هنا أمّاً ولا زوجة ولا معذّبة.
إنها الشاهد الأكبر.

وظيفتها في النص ثلاثية:

1. تحويل الألم إلى غناء
2. تحويل الفقد إلى ذاكرة
3. تحويل الجروح إلى معنى

المرأة هي الصوت الذي يحفظ ما يسقط من أفواه الرجال حين يموتون.

لذلك يمكن القول إنها:

ذاكرة الشعب،
و أداة توثيقه
والروح التي تمنع السقوط النهائي.

رابعاً: الطفل – حامل المستقبل الممنوع

“خرج طفلٌ يحمل في جيبه حرفاً ممنوعاً”

هذه واحدة من أجمل صور النص:
هنا يتحوّل الطفل إلى حامل المستقبل.

الحرف الممنوع يعني:

اللغة
الهوية
الوعي
الخطر

الطفل إذن ليس رمز البراءة، بل رمز
المقاومة المعرفية.

أبعاد هذا الرمز:

1. المستقبل يولد من رحم المنع
2. الحرية تبدأ فوق أكتاف الضعفاء لا الأقوياء
3. الهوية لا تُمنح، بل تُخبّأ وتُهرَّب سراً

الطفل هنا نص، وشعب، وذاكرة غير قابلة للطمس.

خامساً: الخريطة – العدو الذي يخاف الحقيقة

“خريطةً تخاف الدول أن تراها”

الخريطة هنا ليست ورقة سياسية.
إنها حقّ جغرافي ممنوع .

وهي تحول السياسي إلى شعري:

*الخريطة = حقيقة الشعب
الدولة = إنكار تلك الحقيقة

وهذه مفارقة عظيمة:
الخرائط التي تُفصَل في مكاتب السياسة تخاف من عصا شيخٍ فقير يخطّ عليها جغرافيا منسية!

دلالة هذا الرمز:

1. الحقيقة أقوى من السلطة
2. الشعب أقوى من الدول
3. الجغرافيا أقوى من التزوير
4. الحرية تُكتب على عصا شيخ، لا على مكاتب الكبار

سادساً: شظية الضوء – قيامة الأمة

في المقطع الرابع تظهر:

“فتاة صغيرة خرجت من بين الأنقاض وهي تحمل شظيةَ ضوء”

هنا ندخل إلى ذروة الرمزية.

شظية الضوء هي:

البذرة
القيامة
الأمل
النهضة
المستقبل
الحقيقة

ولأنها “شظية”، فهي نتاج ت فجير/موت/هدم.
أي أن الضوء يولد من قلب الظلام.

رمزياً:

هذا ليس أمل الضعفاء، بل أمل الأقوياء

ليس أملاً رومانسياً، بل أمل نابع من الجرح

إنه الضوء الذي يصنع شعباً ينهض “لا ليحتمي… بل ليكبر”.

سابعاً: الصوت الأخير – كوردستان ليست فكرة

في الخاتمة:

“كوردستان ليست سطراً في كتاب”

هذا بيان ثقافي، سياسي، إنساني، ووجودي.

كوردستان ليست:

شعاراً
بنداً تاريخياً
نزاعاً سياسياً
خارطة
موضوعاً

إنها
جسد
و مسار
و صوت
و حقيقة وجودية.

هذا يضع كوردستان في مستوى:

الأرض المقدسة
الذاكرة الحيّة
القيمة التي لا تسقط
الهوية التي تقاوم السرديات الكبرى

ثامناً: كيف تعمل الرموز معاً؟

عند جمع الرموز نجد شبكة متكاملة:

الجبل = الذاكرة/الهوية
النهر = التاريخ/الألم
المرأة = الحافظة/الراوية
الطفل = المستقبل/اللغة
الخريطة = الصراع السياسي
الضوء = القيامة
الصوت/الجسد = كوردستان نفسها

هذه ليست رموز منفصلة.
إنها مراحل تطوّر كائن واحد يدعى كوردستان.

الخلاصة الكبرى للتحليل الرمزي

إن “كوردستان نشيد الجبل الأخير” ليست قصيدة عن وطن، بل:

قصيدة عن كائنٍ حيّ يولد من الجبال،
يمشي في الدماء،
يُقال بصوت النساء،
يُخطّ في جيب طفل،
يُهدّد الدول بخريطته،
وينهض بضوء خرج من تحت الأنقاض.

إنها ملحمة وجودية عن شعب لا يموت لأن رموزه لا تموت .
نص الملحمة

كوردستان نشيد الجبل الأخير

(ملحمة شعرية من خمس قصائد قصيرة)

1
ميلاد الجبل

حين انفتح الفجرُ الأول
كانت الأرضُ تبحث عن كتفٍ
تستند إليه،
فأعطاها الجبلُ عظمةً تشبه قلباً
لم يُخلق ليرتاح.

و من تلك العظمة وُلدتْ أرضٌ
تجرّحُ الوافدين و تضمّ أبناءها،
أرضٌ تعرف أن الحزن قدَرُ الشعوبِ الكريمة،
و أن الكرامة لا تُعلَّمُ و إنّما تُورّث.

سمّوها كوردستان، لكنّها في سرّها
تحمل أسماءً لا تنطقها إلا الريح
و لا تحفظها إلا النسورُ التي لم تخضع يوماً
لسماءٍ ضيّقة.

2
حكاية النهر الذي عبر الدماء

على ضفاف نهرٍ شُقّ بحدّ السيوف،
كان الرجالُ يرفعون نداءاتهم
كأنهم يرفعون السماء.

لم يكن النهر ماءً، كان ممراً للموت و البعث،
كان شرياناً تجري فيه خطواتٌ
تعرف أن الحرية تُكتب أولاً على عظام الضحايا قبل أن تُكتب في الكتب.

و حين سال الطينُ بدماء الذين
لم يُمنحوا حقّ الموت بسلام،
غنّت النساءُ أغنيةً تجعل الحجارة تبكي
و ترفع الجبالُ لغتها
كما تُرفع الأكفّ في الصلاة.

3
صعود الأمة

من كلِّ قريةٍ خرج طفلٌ
يحمل في جيبه حرفاً ممنوعاً
و من كلِّ مدينةٍ خرج شيخٌ
يدوّن على عصاه خريطةً
تخاف الدول أن تراها.

في الليل كانت الجبال تنحني قليلاً
لتسمع كيف يربط الناسُ أصواتهم
بأعناق الأحلام
و كيف يصنعون من الضياع وطناً يمشي.

لا شيء أقسى من أمةٍ
تعرف أن الظلم ليس قدراً ،
بل خصماً يمكن هزيمته.

4
انبعاث كوردستان

و حين ضاق الليل بصمت الأحياء،
انفجرت الأرضُ من تحت أقدام القتلى،
و قال الظلّ لصاحبه:
قُم… فالطريقُ لم يُخلق
ليُطوى.

رصيفٌ مهدومٌ صار نشيداً،
غرفةٌ محروقة صارت مهداً ،
و فتاةٌ صغيرة خرجت من بين الأنقاض
و هي تحمل شظيةَ ضوء
و تقول:
“هذه بلادٌ لا تموت،
فهي تلد نفسها
كلما مزّقوها.”

و هكذا …هكذا
نهض الجبلُ مرة أخرى
و ارتدى اسمه،
و مشى الشعبُ تحت ظله،
لا ليحتمي… بل ليكبر.

5
كوردستان

كوردستان
ليست سطراً في كتاب،
و لا دمعةً على خدّ التاريخ،
إنها جسدٌ يقاوم و يفهم أن الحقّ
قد يمشي ببطء، لكنه يصل.

و إذا سقط النهار تنهض هي
و إذا ضاق الهواء توسّعه
و إذا انطفأت الأصوات تصدح جبالها
بصوتٍ يعرفه الذين يولدون للحرية
و لو خذلتهم كلُّ الخرائط.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock