د. فيروز الولي تكتب :عندما يتحوّل المخبر إلى رئيس… وتتحوّل الدولة إلى “إقامة فندقية طويلة”

في اليمن، لم تعد القيادة فنًّا، ولا صارت الدولة مشروعًا، بل أصبحت مجرد “قائمة خدمات فندقية” لرئيس يتنقّل بين بوابات المطارات وكأن الوطن حقيبة يد تُحمل ثم تُرمى عند أول رصاصة.
ذلك الرجل الذي بدأ حياته المهنية كمخبر جامعي، يكتب تقارير عن الطلاب والأساتذة، وجد نفسه فجأة على هرم دولةٍ تموت من الجوع وتخاف من صوت نفسها.
فكيف يمكن لمن تعلّم فن كتابة التقارير أن يتقن فن صناعة التاريخ؟
التحليل النفسي: الرئيس الذي يهرب من المرآة
رشاد العليمي –في الوعي الشعبي– لا يرى نفسه قائداً، بل يرى اليمن عبئًا يجب الهروب منه.
وجوده في عدن ليس قرارًا وطنيًا، بل مغامرة خطرة مع احتمال الإزعاج “بالرصاص”، لذلك تكون الإقامة قصيرة، والعودة إلى الفندق أسرع من ارتداد الطلقة.
في علم النفس، هذا النوع من القادة يعاني فصلًا عميقًا عن الواقع:
يرى نفسه رمزًا،
بينما يراه الشعب مجرّد مسافر دائم.
الرئيس لا يسمع صوت الناس، يسمع فقط صوت مستشاريه:
“الوضع ممتاز يا فندم، الشعب يحبك.”
كيف يحبك شعبٌ لا يراك إلا في صور عالية الجودة وبزجاج مضاد للرصاص؟
التحليل الاجتماعي: الدولة بلا رأس… والرأس بلا دولة
الشعب يصرخ من حضرموت إلى مأرب إلى سيئون، ومع ذلك لا يزورهم أحد.
زيارة المحافظات لا تحتاج قرارًا أمميًا، بل تحتاج قدمين تمشي على الأرض.
بين المجتمع والقيادة فجوة بحجم حرب:
المواطن يعيش تحت الشمس،
والقيادة تحت تكييف اللوبي.
الوزراء يعتقدون أن المنصب هو:
راتب بالدولار + بدل سفر + بدل خطر + بدل نوم.
أما المسؤولية فهي “تفويض لموظف يرسل تقرير”.
أين الدولة؟
الدولة في اليمن حاضرة في الختم الرسمي، غائبة في الواقع اليومي.
التحليل الثقافي: القيادة في ذهن المسؤول مثل مسلسل تركي
ثقافة القيادة هي نسخة ردئية من الدراما السياسية:
الرئيس يصبح بطلاً بمجرد ظهوره في الإعلام،
والوزير يصبح محترفًا بمجرد ارتدائه بدلة رسمية.
في العقل السياسي اليمني:
الواقعية تهمة،
الميدان خطر،
والاختلاط بالشعب سياسيًا “غير مناسب”.
القائد في ثقافة السلطة هنا يتفحص حال المحافظات عبر شاشة التلفزيون، ثم يطمئن الشعب برسالة مسجلة من جناح فندقي فاخر.
التحليل السياسي: الشرعية بدون حضور… حضور بدون سيادة
الشرعية –كما تصفها الناس– هي دولة خارج الدولة.
ترفع شعارات كبيرة:
“الدولة، المؤسسات، السيادة، القرار الوطني”
لكن ممارستها اليومية تقول شيئًا واحدًا:
القرار ليس هنا… القرار هناك.
الرئيس يقفز من عاصمة إلى أخرى، ليعود بتصريحات أكبر من الواقع وأصغر من الأزمة.
من يراقب المشهد يدرك أننا أمام سياسة ردّ الفعل، لا سياسة بناء المستقبل.
وفي هذا الفراغ، يتمدّد كل شيء:
الحوثي يقتل ويعتقل بتهمة “التجسس”،
الانتقالي يحلم بالبيان رقم (1)،
القوى الإقليمية تضع الختم على مسودة مصيرنا،
والشعب يتفرج بلا مقعد.
التحليل العسكري: البنادق في حضرموت… والرئيس على درجة VIP
الشباب يسقطون في الميدان، بينما التوجيه العسكري يأتي عبر الهاتف، من عاصمة بعيدة.
الجيش بلا عقيدة، والقيادة بلا حضور، والمعركة بلا مشروع.
المعادلة سهلة:
من يحارب يموت،
ومن يحكم يسافر.
عندما تشتد البنادق في حضرموت، يغادر الرئيس عدن “للتشاور”.
تشاور مع من؟
مع من يملك القرار أصلًا.
الشعب يضحك بمرارة:
“نحن نحارب، وهم يحتفلون.”
التحليل الاقتصادي: الدولة شركة مساهمة مغلقة
الاقتصاد الرسمي اليوم هو اقتصاد الهروب:
الهروب من المسؤولية، الهروب من الإصلاح، الهروب من البلد.
الخزينة العامة فارغة، لكن جيوب القيادات ممتلئة.
في الخارج عقارات وفنادق واستثمارات،
وفي الداخل رواتب الجنود متوقفة، ورواتب الوزراء بالدولار.
من كان “خافدًا” أصبح مليارديرًا،
ومن كان مواطنًا أصبح بلا وطن.
التحليل الدبلوماسي: سياسة التأشيرة المتعددة
الدبلوماسية في اليمن ليست مشروعًا خارجيًا للدولة، بل جدول رحلات الرئيس.
الطائرة هي قاعة الاجتماعات،
والمطار هو المكتب السياسي.
في كل زيارة، نفس الجملة:
“نرفض الإجراءات الأحادية، ونؤكد على الشرعية واحترام القرار الدولي.”
جميل. لكن ماذا بعد؟
بعد ذلك، العودة إلى الفندق.
الدبلوماسية الحقيقية تبدأ من الداخل لا من بوابة الأمم المتحدة.
الكوميديا السوداء: شعب يؤدي دور البطولة في فيلم لا يراه أحد
المشهد يبدو كوميديًا لكن الضحكة ليست لنا:
القيادات تصور نفسها في قاعات المؤتمرات،
والشعب يدفن أبناءه في صمت.
صورة الواقع:
الرصاص لغة الوطن،
والعمائم لغة الحكم،
والفنادق لغة الدولة.
أجمل تعريف لليمن اليوم:
دولة يقاتل فيها الشعب من أجل الدولة، بينما القادة يقاتلون من أجل فنادق الدولة.
الرؤية للخروج: كيف نوقف هذا السيرك السياسي؟
لا يحتاج اليمن إلى معجزة، يحتاج فقط إلى فعل طبيعي:
أن يعود القائد إلى موقع القيادة.
خطوات عملية واضحة:
1. عودة القيادة إلى الداخل لا عبر زيارات استعراضية، بل إقامة دائمة.
2. فتح المحافظات للعمل الميداني من حضرموت إلى مأرب إلى سيئون.
3. تحويل تقارير المخابرات إلى حوار شعبي ومبادرات فعلية.
4. محاسبة من حول المنصب إلى استثمار شخصي.
5. بناء مؤسسات حقيقية لا أفراد يوقعون باسم الدولة.
6. اقتصاد إنتاجي يبدأ من الأرض ومن الإنسان.
7. تفاوض سياسي وطني لا دبلوماسية سفر.
8. دستور جامع يعيد تعريف مفهوم الدولة، لا مفهوم الفندق.
الخاتمة: الدولة لا تُدار من جناح فندقي
القيادة ليست مهنة للراحة، بل وظيفة في قلب النار.
من لا يسمع أصوات الرصاص، لن يسمع صدى التاريخ.
ومن يهرب من رعيته، سيهرب منه المستقبل.
اليمن لا تريد رئيسًا يحمل دفتر تقارير،
بل قائدًا يحمل مشروع دولة.
عندما يعود الرئيس إلى الشعب… ستعود الدولة إلى اسمها.
وإلى ذلك اليوم، سيظل اليمن معلقًا بين جناح فندقي، وخندق ميداني.









