حمزه الحسن يكتب :النجاسات الثلاث

في كل دول العالم في الشرق والغرب هناك صراع بين السلطة السياسية والسلطة الثقافية، بين السياسة والاعيبها وبين الفكر والثقافة والمعرفة في كشفها، بين سردية السلطة وسردية المثقفين،
‘إلا في العالم العربي في السنوات العشرين الأخيرة حيث التطابق شبه كامل بين السلطتين بل يدافع المثقف عن السياسي في حين يقوم السياسي برعاية المثقف مالياً وأمنياً وتوفير سبل الرفاهية، وتبقى قلة كتاب ومثقفين تكافح بشرف وبسالة ضد هذا الانحراف ويلوحون للعامة كحفنة مجانين منبوذين امام هذا التداعي المتسارع والواسع فكيف لهؤلاء رفض الاشتراك في الغنائم المفتوحة؟ في مجتمع في لحظة انقلاب المعايير والمقاييس يصبح جنون الحشود الجماعي شطارة وعقيدة وطبيعة وذكاءً، في حين يصبح الرفض الفردي والبقاء نظيفاً نوعاً من الجنون. هذه أخطر علامات انهيار المجتمع يوماً عندما تنهار القيم والمبادئ والاعراف التي تضبط الايقاع الاجتماعي وتحل محلها المعايير الفردية وكل فرد يحلل ويحرم حسب مصلحته.
تلك اللحظة التي انهارت فيها الامم عبر التاريخ بعد المرور بمراحل.
هذه اللحظة التي حددها الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث إميل دوركايم: الانهيار الناتج عن تداخل المعايير العامة والخاصة وفقدان الأمن والضوابط وسيطرة التفسيرات والتبريرات الفردية لكل الجرائم.
صار من الصعب جدا ً التمييز بين ما هو سياسي وثقافي وتداخلت العلاقة بينهما تداخل مخالب الذئب في فريسة ، بل من الغرائب يلوح السياسي في حالات أكثر” أخلاقية” في الظاهر حفاظاً على المظاهر، تاركاً مهمة العض والافتراس لكلبه حامل القلم الذي يذبح الطير ــــ الوصف التقليدي للعرضحلجي او الكاتب العمومي للشكاوى امام مؤسسات الدولة.
المفكر والبروفسور المغربي علي أومليل حاول دراسة تاريخ” السلطة السياسية والثقافية” في العالم العربي والاسلامي وحسب رأيه يقول ان نشأة المثقف العربي تمت في قصور السلاطين كمدون سيرهم وسجلاتهم وخادم الدولة البيروقراطية ويضرب مثلاً في ابن المقفع والجاحظ والتوحيدي
عن كيف تحول ” الكاتب” الى وسيط بين الدولة والمثقف ويلعب الدورين ــــــــــــ كما اليوم ــــــــــــــ في خدمة السلطان وفي نقده الضمني، عكس المثقف الغربي الذي نشأ وولد في صراع مع السلطة السياسية والاجتماعية حتى اليوم وفي الدول الديمقراطية المرفهة ، فكيف انسجم المثقف العربي مع دول بدائية مرتهنة فاقدة الاستقلالية والأمن والعدالة؟
منذ القرن الماضي كان السياسي هو محرك المثقف والكاتب الذي لعب دور كاتب خطاباته وافتتاحياته ومن يخوض صراعاته في الخفاء لكن منذ تسعينات القرن الماضي أفلس الإثنان: انتهى مشروع السياسي ، اذا كان صاحب مشروع، الى نهاية تراجيدية وجاء ” آخرون” من الخارج والداخل واستولوا على السلطة، وأفلس مثقفه لأن حزبه لم يعد يحتاجه للترويج لمشروع لافلاس المشروع ، وصار كل طرف من هؤلاء يبحث عن حليف للرعاية والأمن الشخصي وانتهى صراع الافكار والتشنيع المتبادل لأن الفشل والخوف خلق هوية مشتركة بينهما هي هوية” الخطر كركاب باخرة على وشك الغرق أو مصعد عاطل أو عمارة تحترق بسكان من أعراق مختلفة.
في ستينيات القرن الماضي وما تلاها غرق الشعر العراقي في مديح
عصافير مدريد والقطار الأممي المنطلق من باريس الى اسبانيا
للدفاع عن الجمهورية الفتية في مواجهة الدكتاتور فرانكو في الحرب الاهلية في منتصف الثلاثينات.
القطار ضم كبار الادباء أمثال الروائي اندريه مالرو وهمنغواي وايليا اهرنبيرغ وجورج أورويل ونيرودا وغيرهم الكثير من كتاب وروائيين وشعراء وفنانين،
قرروا حمل السلاح دفاعا عن الجمهوريين، حتى ان جيلنا، من فرط المديح البطولي، كان يحلم بقطار عراقي او عربي ينطلق من محطة قطار لتحرير أرض محتلة، أو للدفاع عن ثورة. كان السياسي هو المحرض.
لم تكن هناك مساحات فارغة في الشعر تلك الايام بلا تقديس لعصافير مدريد وحمامات هانوي وزرازير ساحة السلام السماوي في بكين او بلابل الكرملين.
نحن أيضاً عندنا زرازير. كنا نشتهي معركة من هذا الطراز وموتاً
من هذا الطراز من كثرة التلقين والتعبئة والحشد، وتصعيد تلك المواقف الى مستوى البطولة، وكنا نتمنى وقوع مدن عربية في الاحتلال،
لكي نذهب في قطار ثوري مع اناشيد الثورة والحرية والبنادق والتتن والكرزات.
تصدعت رؤوسنا بالساحات ايضا، ساحات الايديولوجيا مثل ساحات هانوي،
وهافانا وبكين ولينينغراد وغيرها. كنا نشتهي معركة كما في ” الدون الهادئ”،
لأن اسماء مثل دجلة والفرات والنيل لا تصلح جملة في البناء الشعري،
والعصفور العراقي مسكين ووسخ وغير مؤدلج،
ولا يعرف قواعد النظافة ويذرق بعدالة ومساواة على رؤوس السكارى والمصلين،
كما ان حمام الامام الكاظم لا يستحق مديحاً لأنه حمام مسالم مثله مثل حمام الشيخ الكيلاني لم يدخل في مدرسة الاعداد الحزبي ولا يعرف الطائفية وياكل هنا وينام هناك،
ليس حماماً طائفياً ولا يعرف العرق والدم واللون ويأكل في ضريح الشيخ
في النهار وينام في ضريح الامام في الليل.
بل لا يشفع لحمام الباب الشرقي انه يقضي حياته متسكعا بين السكارى والشعراء بعد منتصف الليل،
محروما من النوم
ولا يدخل في النسيج الشعري لانه لم يدخل في مدرسة للاعداد والتلقين الحزبي. اين ذهبت تلك الاصوات اليوم؟
مدن عراقية وعربية أحتلت من وحوش تستنكف منها حتى الوحوش،
فلماذا، مثلاً، لم يركب الشعراء والادباء والكتاب في قطار للدفاع عن الأرض؟
هناك ايضا ساحات وحمام وعصافير وأعداء وبنادق، أم انها لا تصلح كمفردة في قصيدة مثل ستالينغراد؟
لماذا لا يكون الدفاع عنها كالدفاع الشعري عن هانوي؟ لماذا كل ذلك التقديس لسنونوات وكاتدرائيات مدريد،
وفي العراق سنونوات ايضا وكنائس عريقة وجوامع، وحمام جميل ومسالم؟ مرة أخرى كان السياسي الحزبي يقف خلف الشاعر والمثقف وعندما افلس الأول صمت الثاني.
الذين ذهبوا للدفاع ولتحرير الموصل وغيرها لم يركبوا قطارات بل تعلقوا بشاحنات وتركوا الصرايف والاطفال وعربات البيع،
في حين لم يتطوع أديب واحد للقتال مما يعني أن الثقافة ليست الكتابة فحسب،
بل الثقافة ممارسة وإنتاج تقاليد حية وليس التفكير بشيء والعمل عكسه.
لكن الذين لم يحاربوا ولم يحرروا طاولة او رصيف أو مبولة هم الذين
حكموا على الذين قاتلوا واستشهدوا،
وظلت صورهم على الجدران تروي حكاية وطن في المزاد. لماذا لا تحشد هذه القوى الناس للدفاع عن الأرض
والحرية والثروة والسيادة كما تفعل احتجاجاً لغلق الحانات ؟
لماذا تبقى هذه القوى أسيرة الصالونات والندوات والبيانات، في حين حتى صالونات الحلاقة ومحلات بيع الطيور والتكايا والكراجات وباعة العربات قد تطوعوا للدفاع عن الارض بلا راتب ولا ملابس عسكرية اول الامر؟
مرة أخيرة تداخل العلاقة بين السلطة السياسية والسلطة الثقافية وحتى السلطة الاجتماعية وتداخل المصالح هذا لجم ولعشرات السنوات أية محاولة للتغيير لأنها تمسك المفاصل الثلاثة المحركة: سلطة السياسة وسلطة الثقافة المزيفة و سلطة المال. أي النجاسات الثلاث. كل سلطة من هذه متحالفة مع عشرات السلط العنيفة مع تحالفات الخارج وتم الامساك بالواقع الاجتماعي حسب مخطط مرسوم مسبقاً بحيث يظهر الانفلات والفوضى الامنية والجرائم وكأنها أعراض محلية وليست نتاج تخطيط في ابادة صامتة للمجتمع. أي تم التحكم بالواقع الاجتماعي من خلال النخبة الحاكمة كما تؤكد “وثيقة التوجهات السرية الامريكية ” في حال حصول تحولات جذرية لنظم حكم ” غير منضبطة أو موالية” للغرب والولايات المتحدة مع عدم الظهور في الواجهة لمنح الحكام الهيبة امام الشعب. أي التحكم من خلف ستار أمام شعب يعشق المظاهر ولا يعرف هذا النوع من التحايل السري وتعود على العنف الفج المباشر.
إن ما قامت به بريطانيا في الهند من عملية” تهجين” لتدمير الهوية الهندية بادخال المسيحية في الديانات الهندية وخلقت الهندي المهجن لا هو انكليزي ومسيحي ولا هو بوذي او هندوسي ولا هو هندي بل مخلوق” مضيع صول جعابة” وهو مثل عراقي عن فقدان التوازن أو “التهجين الثقافي Cultural hybridization” بتعبير الفيلسوف الهندي الكبير هومي بابا البروفسور في جامعة هارفرد صاحب مفهوم” الهجنة أو الفضاء الثالث للثقافة” اي تلقيح ثقافتين وانتاج ثقافة ثالثة الذي يؤدي الى الاغتراب الروحي عندما يفقد الانسان جذوره وذاكرته وهويته ، هو ما تقوم به الولايات المتحدة في العراق من خلال الغاء تاريخ وهوية وثقافة عراقية عريقة وادخال ثقافة تافهة سطحية لتخليق العراقي التائه المسيطر عليه والمتحكم به وقد بدأنا نرى تباشير ولادة هذا المخلوق المهجن فلا هو عراقي ولا هو أمريكي ولا هو مسلم ولا هو زنديق وأقرب الى القرقوز.
هو السبب الرئيس الذي يدفع الولايات المتحدة لكراهية التقاليد الدينية لانها علامة تشبث مقابل قوة اقتلاع مما يعرقل خلق ” الفضاء الثالث” أو الكائن المهجن الذي تمكنت في احداث تصدعات هنا وهناك تحت شعارات الديمقراطية والأمن والقانون.
للتاريخ كان إبن خلدون أول مفكر ومثقف تعرض لهذه العلاقة الهشة المنافقة بين السياسة والثقافة وتلك العلاقة قضت كما اليوم على العقلانية وعلى المنطق لصالح التهريج والغوغاء وصار كل طرف يمتطي الاخر في الخطر والمواجهة لان القارب اذا غرق، فسيغرق بالجميع.









