الضحاك بن قيس

في أزقة دمشق العتيقة كان يعيش الضحاك بن قيس.
كان الضحاك شابًا نهمًا للمعرفة، لكنه كان يشعر بـثقل غريب يلف المدينة.
كان شيخهم ومرجعهم، الصحابي الجليل أبو الدرداء (رضي الله عنه)، قد اعتاد الجلوس في المسجد، تنبعث من مجلسه نور الحكمة والزهد. وفي أحد الأيام المشهودة، جمع أبو الدرداء أهل دمشق، وقد اعتلت وجهه نظرة حانية ممزوجة بـألم خفي.
صوته الرخيم اخترق ضجيج السوق الصامت، يهز القلوب قبل الأسماع:
“يا أهل دمشق! أنتم الإخوان في الدين، والجيران في الدار، والأنصار على الأعداء، ما يمنعكم من مودتي؟
وإنما مؤونتي على غيركم…”
كانت كلماته كالنسمة الرقيقة أولًا، ثم كـصاعقة هادئة في نهايتها:
“ما لي أرى علماءكم يذهبون، وجهالكم لا يتعلمون؟”
ارتجف قلب الضحاك. كانت الكلمات مرآة عكست حالهم بدقة موجعة. بالفعل، كان الشيوخ الكبار يتساقطون كأوراق الخريف، يحملون معهم كنوزًا من الحديث والفقه والعلم، بينما كان الشباب، بمن فيهم الضحاك نفسه، منشغلين بالحياة الدنيا، يلهثون خلف “ما تكفل لهم به”، تاركين “ما أمروا به”.
بعد هذه الخطبة، لم يستطع الضحاك النوم.
تذكر رفاقه الذين فضلوا الجلوس في مقاهي السوق يتناقشون في أسعار القمح والبضائع القادمة من الحجاز، أو أولئك الذين انكبوا على بناء البيوت الفخمة وجمع المال، وقد نسي الكثير منهم مواعيد مجالس العلم.
كان أبو الدرداء يرى ما لا يرونه: العلم لا يورث! إنه يذهب مع حامله، والجهل هو الفراغ الذي يملأ مكانه.
خرج الضحاك فجرًا. رأى ثلاثة من كبار العلماء قد أتموا بناء مساكنهم في طرف المقبرة الجديدة، كانت تلك هي قبورهم. تذكر المقولة المؤثرة: “ألا إن أقوامًا بنوا شديدًا، وجمعوا كثيرًا، وأملوا بعيدًا، فأصبح بنيانهم قبورًا، وأملهم غرورًا، وجمعهم بورًا”.
شعر الضحاك بـالخطر الداهم؛ إنهم يراقبون أموالهم التي هي إلى فناء، ويهملون العلم الذي هو إلى بقاء.
العلم هو الإرث الوحيد الذي لا يتحول إلى “بور” (هلاك أو ضياع).
في اليوم التالي، عاد الضحاك إلى المسجد، لكن هذه المرة لم يجلس في صفوف المستمعين، بل اقترب وجلس عند أقدام أبي الدرداء.
سأله أبو الدرداء بابتسامة حكيمة: “أعدت إلينا يا ولدي؟”
أجاب الضحاك بصوت خفيض وعزيمة جديدة: “يا سيدي، لقد أيقظتني كلمتك.
أخشى أن أكون من الجهال الذين لا يتعلمون، فإذا بنا ندفن علماءنا وندفن معهم نورنا.”
منذ ذلك اليوم، أصبح الضحاك لا يغادر مجالس العلم. لم يكتفِ بالتلقي، بل كان ينقل ما سمعه إلى جيرانه وأهل سوقه، مستشعرًا الجزء الثاني من الوصية: “ألا فتعلموا وعلموا، فإن العالم والمتعلم في الأجر سواء، ولا خير في الناس بعدهما.”
وببطء، بدأت جمرة العلم تتوهج من جديد في دمشق. تذكر الشباب فضل السؤال على فضل المال. ارتفعت الأصوات بالمسائل الفقهية بدلًا من نقاشات التجارة.
لقد ذهب أبو الدرداء، وذهب العلماء من بعده، ولكن كلمته لم تذهب.
لقد ظلت تتردد كـ”النداء الأخير” في ذاكرة الأمة. تحولت المقولة من عتاب مؤلم إلى شعلة أمل.
علم الضحاك ومن معه أن العلم لا يموت إلا بموت الرغبة فيه، وأن أخطر ما يصيب مجتمعًا هو أن يرحل الحكماء وهم وحدهم الذين يحملون المصباح، ويبقى الجهال في الظلام دون أن يمدوا أيديهم ليتعلموا كيف يضيئون مصابيحهم الخاصة.
وهكذا، بفضل عتاب رجل حكيم، وصدق شاب أدرك الخطر، لم تترك دمشق علماءها يذهبون عبثًا، بل ورثوا نورهم، وضمنوا أن يكون العالم والمتعلم في الأجر سواء، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.









