حين يتنازع الذوق والفلسفة: في سجال «الغزل الفلسفي» بين العقاد وخصومه….بقلم: عماد خالد رحمة

لم يكن الخلاف الذي تفجّر حول قصيدة العقاد الموسومة بـ«غزل فلسفي» مجرّد ملاحظةٍ لغويةٍ عابرة، ولا مشادّة ذوقية بين أقلام متنافسة، بل كان كاشفًا عن صدعٍ عميق في تصور الشعر، ووظيفته، وحدود المجاز حين يتجاوز الحسّ إلى التجريد. ففي بيت العقاد الشهير، وهو يخاطب محبوبته: «فيكِ من كلّ شيء»، انفتحت أبواب التأويل، واشتعلت نار السجال بين من رأى في العبارة سموًّا فلسفيًّا، ومن عدّها انفلاتًا دلاليًّا يسيء إلى روح الغزل وحرمة المعنى.
العقاد، وهو ابن العقلانية الحديثة، لم يكن يقصد تعداد الأشياء، ولا جمع المتناقضات في جسد امرأة، بقدر ما كان يطمح إلى صورةٍ كليّة، تختزل الوجود في المحبوب، وتجعله مرآةً للكون، على طريقة الفلسفة الرومانسية التي ترى في الحبّ مبدأً كونيًّا، وفي المرأة رمزًا للتمام. غير أنّ هذه النزعة التعميمية، حين هبطت إلى اللغة الشعرية العربية، اصطدمت بذائقةٍ تشكّلت على دقّة اللفظ، وحراسة المعنى، وخشية الانزلاق من المجاز الموحِي إلى العبث الدلالي.
هنا تقدّم محمد صادق الرافعي، لا بوصفه ناقدًا فحسب، بل حارسًا لهيبة اللغة، ليطلق ردّه اللاذع: إذا كان فيها من كلّ شيء، فلابدّ أن يكون فيها الوباء والطاعون! ولم يكن الرافعي ساذجًا ليأخذ العبارة على ظاهرها، لكنه أراد أن يكشف هشاشتها المنطقية، وأن يفضح ما رآه توسّعًا مجازيًّا بلا ضابط، يفرّغ الشعر من دقّته، ويحوّل العاطفة إلى فكرةٍ متورّمة. فاللغة، عند الرافعي، ليست مطّاطةً تحتمل كلّ شيء، بل كائنٌ أخلاقيّ، إذا أُهملت حدوده فسد ذوقه وسقطت هيبته.
وقد وجد محمود محمد شاكر في موقف الرافعي صدىً لرؤيته الصارمة، التي ترى الشعر ممارسةً مسؤولة، لا حقلَ تجارب فلسفية سائبة. فشاكر، شيخ العربية الغيور، كان يعتقد أنّ الشعر العربي لا يُقاس بعمق الفكرة، بل بصدق التعبير، وأنّ المجاز إن لم يكن منبثقًا من الحسّ والتجربة، انقلب ادّعاءً ذهنيًّا باردًا. أما سيد قطب، في مرحلته الأدبية، فقد انحاز هو الآخر إلى هذا المعسكر، لا من باب المحافظة الشكلية، بل من إيمانه بأنّ الجمال الشعري لا يُستمدّ من الشمول المجرّد، بل من التحديد الموحِي، ومن الصورة التي تُلمس لا التي تُفكَّر فقط.
هكذا، لم يكن الخلاف حول بيتٍ واحد، بل حول سؤالٍ أعمق: هل الشعر فضاءٌ للفكرة أم ملاذٌ للإحساس؟ هل يحقّ للشاعر أن يقول «كلّ شيء» دون أن يحاسبَه المعنى؟ أم أنّ البلاغة العربية، بتاريخها وصرامتها، ترفض هذا النوع من الكلّيات الفضفاضة؟ بين العقاد ومن خالفوه، تبلورت معركتان: معركة العقل الذي يريد أن يُفلسف الغزل، ومعركة الذوق الذي يصرّ على أن الغزل، مهما سما، يجب أن يظلّ وفيًّا لحرارة الحسّ ونقاء الصورة.
ولعلّ قيمة هذا السجال، بعد كلّ هذه السنين، لا تكمن في ترجيح كفّةٍ على أخرى، بل في تذكيرنا بأنّ الشعر العربي لم يكن يومًا حقلًا محايدًا، بل ساحةً لصراعٍ نبيل بين الرؤية والمعيار، بين الحرية والضبط، وبين غواية «الكلّ» وفتنة «الدقّة». وفي هذا الصراع، وُلد نقدٌ حيّ، لا يزال قادرًا على مساءلة لغتنا، كلّما أوهمتنا الفكرة أنّها أسمى من اللفظ.









