حمزه الحسن يكتب :ميثولوجيا المكتب

ــــــ خجلتُ من نَفسي عِندما أدركتُ، أنّ الحياة حفلةٌ تنكَرية، وأنا حضرتُها بوجهي الحقيقي.* فرانس كافكا.
لماذا وصف كافكا” المكتب” بعالم الغرابة وليس الغباء؟ ما الذي اكتشفه في هذه المادة الرمادية الجامدة التي حولها الى شعر بمعنى الغوص العميق فيها وتفجيرها من الداخل سواء في رواية ” المحاكمة ” أو” القلعة”؟ المكتب ليس غبياً لكنه يمثل سلطة خفية اجرامية لا يمكن الاحاطة بها ومعرفتها كالميثولوجيا لكن يمكنها التحكم من خلال أدوات كالمكتب والسجلات والأرشيف. المكتب ليس خشبا كما يراه البعض بل هو ميثولوجيا غامضة لادارة السلطة من خلال سجلات وادوات.
المكتب جزء من الواقع الظاهري لكنه منفصل عنه وله منطق خاص والسلطة لا تمارس النظام كما تلوح في الظاهر بل تمارس العبث والعدمية واللامنطق في اطار مؤسسات تبدو عقلانية. السلطة القهرية أقصى حالة جنون لما ترتكبه من فظائع وجرائم ولكنه جنون مغطى بقوانين وعقائد وقواعد.
مرة حضرت منتصف الثمانينيات في شرق ميسان/ العمارة وفي ميدان رمي مقر الفيلق الرابع مع حشود من الجنود في تجميع اجباري لمشاهدة اعدام جنود فارين من الحرب بلغ عددهم حوال 700 جرى اعدامهم في المكان نفسه دفعات لكني سمعت ضابطاً مكلفاً بشد الجنود على الخشبات والتأكد من الأسماء لأنها تتشابه يقول لضابط آخر ” عليك تطبيق القانون وتعصيب عيون الجندي” بعد نفاد الأعصبة. قانون؟.
هذه الغرابة الكافكوية يتحول الرعب الى قانون والجريمة الى تقليد وسلطة المكتب التي اصدرت امر الاعدام لا تفتقر للذكاء بل للضمير كما حدث مع جوزيف. ك. في رواية المحاكمة الذي أعدم ” مثل كلب” كما قال دون أن يعرف شيئاً عن جريمته. لماذا يجب أن يعرف اذا كانوا هم يعرفون؟
كيف سرق هؤلاء وظيفة ملائكة الكتفين في الأرشفة للناس؟ النظام يلوح منضبطا في كل شيء لكنه مبني على الغرابة.
يقول ميلان كونديرا: ” كيف استطاع كافكا تحويل المكتب، هذه المادة الرمادية غير الشعرية الى روايات مذهلة ؟ نجد الجواب في رسالة كتبها كافكا الى ميلينا :
“المكتب ليس مؤسسة غبية، انه أقرب الى عالم الغرابة منه الى الغباء ” .
لكن أين تكمن غرابة المكتب؟ كافكا نفسه لغز محير حتى اليوم رغم محاولات النصاب ماكس برود صديقه تشويه كافكا وصنع صورة سوداوية ملفقة وتحويله الى حاخام يهودي لان ماكس نفسه صهيوني واستغل عزلة كافكا عن النخبة الادبية واستغل وصية كافكا بحرق” بعض” مؤلفاته غير المكتملة ورسائله الشخصية ومات مجهولاً لكن ماكس برود هو من خلق تلك الصورة السوداوية لكافكا وتلك أكبر كذبة في التاريخ الثقافي بتعبير مواطنه ميلان كونديرا الذي عرى ماكس برود في كتابين: “خيانة الوصايا” و”فن الرواية”.
في رواية المحاكمة لـــ كافكا، تتوضح اكثر سلطة المكتب الغامضة:
يتم إعتقال جوزيف. ك، من قبل شرطة في الصباح في يوم عادي،
لا يعرف من هم وبتهمة لا يعرف عنها شيئاً، وخلال متاهة في أروقة محكمة كالحة وممرات موحشة،
يكتشف جوزيف القوة الخفية في المكتب تلك المادة الرمادية الجامدة،
ومع المكتب يكتشف الارشيف،
حيث السلطة تكمن في الأرشيف وحياة الفرد توجد في ملف وليس في حياة،
وما هو مدون في الملف الموضوع على الطاولة هو كل الفرد وكل الحقيقة،
والأرشفة لم تعد من اختصاص السلطة اليوم، وهذه طبيعة العقل المغلق كصناديق قديمة مغلقة متعفنة،
بل كل شخص يملك أرشيفاً خاصاً عن الاخرين كما لو انه احد ملائكة الكتفين، ولا يراه كما هو بل كما تخيله وصنع له صورة من خلال انحيازاته او من تخيلات اخر وهذه البنية العقلية المغلقة ترى الحياة من منظار العطب ولا تعرف من هي فكيف تعرف الاخر؟
حتى في المنافي قبل الاحتلال كان التهديد عند الاختلاف عبارة شائعة:
” سيصلني ملفك”. من عبارات أجهزة الأمن التي يرددها الضحايا بلا وعي ولا شعور.
أي الانسان ليس موجودا في حياة وفي تطور وعالم عاصف يتغير بل عبارة عن ملف في درج مغلق أو في حاسوب وكود للحفظ وهذه خاصية لم أجدها لدى أي شعب ولو عشت معه في عمارة واحدة وباب واحد عشرات السنوات.
العقل المغلق يعطي لكل واحد كودا للحفظ ما ان يضغط عليه حتى يحضر الملف في حين الانسان في مكان اخر وفي تحولات من اليقظة حتى النوم ومن الولادة حتى الموت، كما لو ان الناس ملفات في مخازن وأدراج وليسوا في حياة،
سرقوا وظيفة الرب في المراقبة والعقاب بتعبير جاك ديريدا في: الأرشيف الفرويدي. ملائكة الرب تمنح الحق في التوبة حتى في غرغرة الموت لكن الارشيف البشري جامد وقطعي وسجن نهائي خاصة في مجتمعات تقليدية بلا حداثة ولا تطور وتستقر الحوادث الفردية التافهة عشرات السنوات وتمارس الاجترار لان الحياة نفسها ميتة ومكررة.
هنا يقترب ديريدا من كافكا في تفسير المكتب والارشيف” لا يرى دريدا الأرشيف كمجرد مكان محايد لحفظ السجلات، بل ككيان معقد وفعّال يتشابك مع السلطة والذاكرة والمستقبل”
عندما يقول لك محقق في جهاز الأمن تافه جالس خلف المكتب إن حياتك عندي ، أي يقصد الملف، أعرف انه ينزع منك حياتك وذاكرتك وستقضي وقتا طويلاً في التفكير كيف هي ” حياتك الأخرى” التي لا تعرفها في الملف؟ من كتبها؟ الأرشيف يعني المكان ويعني الأمر في اللغة اليونانية وقد انتقل من سلطة الآلهة الى سلطة البشر.
قصة حياتك ليس في ذاكرتك لانك بلا ذاكرة بل في ملف الذي وظيفته الحفظ ونقيضه: التدمير. أي الغاء الانسان ومن يتحكم بالارشيف يتحكم بالذاكرة. حفظه في سجل وتدميره في الواقع.
في الأرشيف العراقي أنت لست أنت بل توجد محنطاً في أرشيف أو في ذاكرة أحد ما أو ملف أو خزانة وعندما تحضر لا تحضر أنت بل الأرشيف.
أحيانا تسمع أغبى عبارة في التاريخ” ” حياتك كلها عندي” فتعرف انك امام أحمق يعرف كل شيء وعنده ما يقوله عن اي شيء،
في حين لا تعرف أنت أشياء كثيرة عن عالمك الداخلي وقواك الخفية وفي كل لحظة أو يوم تكتشف جديداً.
يقول أميل سيوران:
” كيف تدعي أنك تعرفني جيداً، إذا كنت أنا في لحظات لا أعرف نفسي؟”
في رواية المحاكمة في اليوم الأخير يحضر جوزيف ك ويطلب منه القاضي أن يؤدي القسم وعندما القى جوزيف نظرة على المكتب قرأ عنوان كتاب عن الحياة الجنسية.
عندما يذهب جوزيف ك. لأول استجواب له في المحكمة، يلاحظ وجود كتاب مصور بوضوح ذي محتوى جنسي إباحي على منضدة القاضي؟ هذا هو العبث في نظام بيروقراطي تتحول فيه الاباحية الى قانون وهنا” الشعر” الذي اكتشفه كافكا في المكتب.فساد ونفاق وصرامة السلطة. يكشف كافكا في هذا المشهد المذهل السلطة كمسرح للغرائز والجرائم والجنون رغم انها تتظاهر عكس ذلك.
يؤخذ جوزيف .ك. الى مكان وعبر نافذة سيارة البوليس يرى الحياة في شوارع براغ عادية ثم يُعدم دون أن يعرف لماذا ويرى نافذة تنفتح من عمارة مقابلة لكن ماذا تعني حتى لو كانت أملاً فلقد فات الأوان أو ان كافكا يسخر من حلم خلاص الانسان من قوى اجرامية أو ترك نهاية مفتوحة.
لماذا يجب أن يعرف لماذا أعدم؟ السلطة، سواء سلطة جماعة أو فرد أو نظام، في كل مكان تحول الانسان الى شيء، وعندما تقوم بتحطيم كرسي أو تفكيك دراجة أو هاتف،
لا تشعر بالتعاطف معه بل المتعة والتلذذ وذلك هو التشيؤ reification: تحويل العلاقات الانسانية الى علاقات ميكانيكية بلا ندم ومشاعر ذنب ولا اعتراف بخطأ لأن الجزء الجوهري في المنحرف غائب أو ميت: الضمير. عندما كان الارهابيون يقومون بالذبح على الارصفة امام الناس كانوا يبتسمون للجمهور لان المهمة” تفكيك أشياء” ومن يتعاطف مع تفكيك شيء؟









