غير مصنف

محمد عبد الباسط عيد يكتب :الست أم كلثوم

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

رغم كثرة الحوارات الصحفية والتلفزيونية التي أجريت مع أم كلثوم، إلا أننا لا نعرف الكثير عن حياتها الخاصة، فأم كلثوم ريفية، والريفيون لا يبيحون حياتهم الخاصة بسهولة؛ فقيمة الستر واحدة من القيم الأصيلة التي تتحكم في كثير من سلوكهم، وما نعرفه عن حياتها أغلبه من العموميات المعروفة بالضرورة عن مكابدات الريفيين مطالع القرن الماضي والنساء منهم خاصة… كانت أم كلثوم حريصة على عدم ابتذال حياتها الخاصة، وأصرّت باستمرار على التمييز بين الخاص والعام، فلا تُدخل هذا في ذاك.
واللافت أن جمهورها انشغل – مع الوقت – بأغانيها عن سيرتها، وخلق سردية حول هذه الأغاني وما يتناثر حولها من حكايات، وما يحكم اختياراتها من مبادئ، وما تجريه على النصوص والألحان من تعديل، فانساب خاص أم كلثوم غير المتاح في عام أم كلثوم المتاح، وغدت حياتها «سيرة غنائية» محكية، فيها من الخيال بقدر ما فيها من الحقيقة… سيرة تتناول محطات نبوغها، وتتابع بداياتها الأولى مع التواشيح، ورحلتها مع مشايخ التلحين وما رافق هذه البدايات من صعوبات وتحديات، وما أعقب ذلك من حضور طاغٍ حتى أصبحت «سيدة الغناء العربي».
ومن هنا، كانت الصورة الذهنية لأم كلثوم لدى جمهورها صورة صوتية بالأساس، تتصل بعلاقته الوجدانية مع هذا الصوت «الذي يمتد على ست عشرة درجة نغمية» (شريف صالح: مجانين الست)… هذا الصوت الذي ازدهرت قدراته وتبلورت هويته الفائقة عبر ارتباطه بنخبة استثنائية من الموسيقيين والكُتاب والشعراء والصحفيين والسياسيين، كانوا دعائم (النموذج الغنائي) الجديد الذي يجسده صوت أم كلثوم… بل إن مواقف أم كلثوم الاجتماعية والإنسانية ومبادراتها الوطنية تُعزِّز مباشرة صورتها الصوتية؛ إذ تفتح لها آفاقًا رحبة في نفوس جمهورها، باعتبارها – أي المواقف – جزءًا من همومهم وطموحهم الفردي والجمعي… فكان الغناء – ربما للمرة الأولى – تعاونًا على الجمال، وتعاونًا على محن الحياة وهمومها في الوقت نفسه، كان أخذًا وردًّا من المطرب إلى جمهوره، ومن الجمهور إلى مطربه.
نحن نتكلم عن مستوى من التفاعل والتناغم غير المسبوق، الأمر الذي مكّن أم كلثوم على مدار عقود متصلة من عمرها الغنائي من (استمالة) جمهورها والتمتع بتقديره… والاستمالة – كما هو معلوم – غاية كل خطاب، والغناء خطاب جماليّ حيّ، ومن المهم أن نتعامل معه بهذا الاعتبار.
(هامش: من الممكن هنا مقاربة أصوات الجمهور، ورصد تعليقاتهم وانفعالاتهم، في الحفلات المختلفة للأغنية الواحدة، ورصد تفاعل أم كلثوم مع جمهورها ومدى تجاوبها معهم، وهو ما يميز بعض الحفلات عن بعضها الآخر… جمهور أم كلثوم جزء من بهائها بلا شك).
وحين انتشرت الصورة الفوتوغرافية، في وقتٍ لاحق، وطُبعت صور أم كلثوم على نطاق واسع لحاجات الدعاية، كانت صورها منسجمة مع المزاج العام؛ فلا توجد صورة واحدة لأم كلثوم – حتى في أوقات الفراغ والاسترخاء على شاطئ البحر- يمكنها التأثير سلبًا على رأي جمهورها، على اختلاف طبقاته وشرائحه.. فهي تشترط – طبقًا لحديثها مع محمود عوض – ثلاثة أمور في الفستان الذي ستظهر به: الأناقة والحشمة والبساطة، وبتلك الصورة المقنعة أو التي يرضى بها الجميع تمكنت من تقديم الأغنية العاطفية التي تتناول الحب والغرام، والأغنية الوطنية التي تدعم نضال الأوطان، والأغنية الدينية التي تترنم بسبحات الطائعين ودموع التائبين والطائفين.
كانت أم كلثوم مقبولة في هذا ومقنعة في ذاك.. ومن المعروف أن المتلقي – كما يقول منظرو الحجاج – لا يُسلِّم عقله أو وجدانه إلا لمن يثق في صدقه وإخلاصه وإتقانه… لقد آمن بها جمهورها واقتنع بما تمثله، ومن ثم فقد تركّز اهتمامه على صوتها وشدوها واختياراتها وتابع باهتمام غير مسبوق تطوراتها الغنائية وانتقالاتها الفنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock