مقعدٌ وحيدٌ في محطةِ القطارِ…بقلم حيدر البرهان

أنتَ هناكَ..
على المقعدِ الوحيدِ.
لا شيءَ سوى صَفيرِ الرّيحِ الحزينِ،
وَصَدَى خُطواتٍ غريبةٍ
تَبتعدُ في الممرِّ الطويلِ.
العالمُ كُلُّهُ يمرُّ أمامَكَ
كشريطٍ سينمائيٍّ مُخرَّبٍ.
وأنتَ المُشاهدُ الصامتُ
الذي فقَدَ حتى رغبةَ التعليقِ.
هذا المقعدُ هو جَزيرَتُكَ،
مَنْفاكَ،
قَفَصُكَ الحديديُّ.
تسألُ:
أأنتَ هُنا بِانتظارِ قِطارٍ لن يأتِيَ؟
أمْ أنَّ القِطاراتِ كُلَّها قد فاتَتْ،
وَتَرَكَتْكَ في وَرْطَةِ الوُجودِ هذِهِ؟
الوُجوهُ العابِرَةُ
أقْنِعَةٌ تَطْفُو على سَطْحِ زَمَنٍ لا مَعْنَى لَهُ.
يَمْتَطُونَ قِطاراتِهِمُ المُتَعَجِّلَةَ
نَحْوَ وَجْهاتٍ وَهْمِيَّةٍ.
أمَّا أنتَ،
فَجُلوسُكَ على هذا المَقْعَدِ
اعْتِرافٌ ضِمْنِيٌّ
بأنَّكَ لَمْ تَعُدْ تَنْتَمِي إلى سِباقِهِمِ الصَّاخِبِ.
انْطَفَأَتِ الشَّمْعَةُ الدَّاخِلِيَّةُ.
لَمْ يَبْقَ سِوَى الرَّمادِ،
وَالوَعْيِ المُثْقَلِ بِهذَا الانْطِفاءِ.
اغْتِرابٌ رُوحيٌّ
عَنْ عالَمٍ يُشْبِهُ وَحْشاً نَهْماً
لا يَشْبَعُ إلّا مِنْ أَرْوَاحِنا.
تَرَاهُ يَبْتَلِعُ الجَمِيعَ،
لَكِنَّ أحَداً لا يُلاحِظُ.
يَضْحَكُونَ،
يَتَحَدَّثُونَ بِالهَوَاتِفِ،
يُسَارِعُونَ..
وَكَأنَّهُمْ يَعْرِفُونَ إلَى أَيْنَ يَذْهَبُونَ!
أَيُّ وَهْمٍ هَذَا
الَّذِي يَعِيشُونَ فِيهِ؟
الحِكْمَةُ
لَيْسَتْ في مَعْرِفَةِ وَقْتِ القِطَارِ التَّالِي،
بَلْ في الجُرْأَةِ
عَلَى مُوَاجَهَةِ فِكْرَةِ
أنَّهُ رُبَّما لا وُجودَ لِوَجْهَةٍ مِنَ الأَصْلِ.
رُبَّما الخُطَى كُلُّها
تُؤَدِّي إلى نَفْسِ الفَرَاغِ.
المَقْعَدُ الوَحِيدُ
اسْتِعَارَةٌ عَنِّي وَعَنْكَ..
عَنْ كُلِّ مَنِ اسْتَيْقَظَ فَجْأَةً
فَاكتَشَفَ أنَّهُ كانَ يُسَافِرُ وَحِيداً مُنْذُ البِدايَةِ.
الوُجودُ
مَحَطَّةُ قِطَارٍ مَهْجُورَةٍ
في لَيْلَةٍ مَاطِرَةٍ.
لا أَحَدَ قَادِمٌ..
لا أَحَدَ رَاحِلٌ..
هُنَاكَ فَقَطْ
صَمْتُ الكَوْنِ المُطْبِقِ،
وَضَجِيجُ الأَسْئِلَةِ
دَاخِلَ جُمْجُمَتِكَ.
لَكِنْ،
في أَعْمَاقِ هَذَا الصَّمْتِ،
في قَاعِ هَذَا الانْطِفاءِ،
ثَمَّةَ نُورٌ أَسْوَدُ..
نُورُ الوَعْيِ المُطْلَقِ بِالذَّاتِ.
تَنْطَفِئُ
لأَنَّكَ رَأَيْتَ مَا لَمْ يَرَهُ الآخَرُونَ:
زَيْفَ المَسْرَحِيَّةِ كُلِّهَا.
فَضَحْتَ اللَّعْبَةَ لِنَفْسِكَ،
وَلَمْ تَعُدْ قَادِراً عَلَى اللَّعِبِ.
هَذَا المَقْعَدُ
كُرْسِيُّ الحَكِيمِ.
هُنَا،
حَيْثُ لا شَيْءَ يَحْدُثُ،
يَحْدُثُ كُلُّ شَيْءٍ.
هُنَا،
حَيْثُ تَشْعُرُ بِأَنَّكَ لا تَنْتَمِي إلَى هَذَا العَالَمِ،
تَبْدَأُ رِحْلَةُ الاِنْتِمَاءِ إلَى ذَاتِكَ..
إلَى وَحْدَتِكَ المُطْلَقَةِ.
الِاغْتِرَابُ عَنِ العَالَمِ
هُوَ الشَّرْطُ الأَوَّلُ لِلِاتِّصَالِ بِالكَوْنِ.
فَاجْلِسْ عَلَى مَقْعَدِكَ الوَحِيدِ..
لا تَتَحَرَّكْ..
اسْتَسْلِمْ لِلانْطِفَاءِ.
فَمَنْ يَنْطَفِئُ تَمَاماً،
يُصْبِحُ قَادِراً عَلَى رُؤْيَةِ الظَّلَامِ..
وَمَنْ يَرَى الظَّلَامَ حَقّاً،
يَبْدَأُ فِي البَحْثِ عَنِ النُّورِ الَّذِي بِدَاخِلِهِ.
الْقِطَارُ الوَحِيدُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الاِنْتِظَارَ،
هُوَ ذَاكَ الَّذِي سَيَأْتِي مِنْ دَاخِلِكَ..
حِينَ تُدْرِكُ
أَنَّ المَحَطَّةَ كُلَّهَا وَهْمٌ،
وَالْمَقْعَدَ وَهْمٌ،
وَالِانْتِظَارَ وَهْمٌ..
عِنْدَهَا فَقَطْ،
سَتَقِفُ
لِتَسِيرَ عَلَى قَدَمَيْكَ..
إلَى أَيِّ مَكَانٍ..
بِلَا جَدْوَلٍ،
بِلَا وَجْهَةٍ..
فَقَطْ
لِتُحَقِّقَ حُرِّيَتَكَ المُطْلَقَةَ
فِي التِّيْهِ.









