رؤي ومقالات

الحقائق المحجوبة ، كيف تُدار الحرب الإعلامية على شعب الأيغور المسلم؟

بقلم عبد الوارث عبد الخالق التركستاني

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

الحقائق المحجوبة، كيف تُدار الحرب الإعلامية على شعب الأيغور؟
بقلم: عبد الوارث عبد الخالق التركستاني

يقول عبد الوارث عبد الخالق التركستاني المسلم رئيس جمعية تركستان الشرقية للصحافة والإعلام في تقرير له أنه في زمنٍ أصبحت فيه الكلمة والمعلومة أقوى من الرصاص، لم يعد الصراع يُخاض فقط بالأسلحة والجيوش، بل أصبح الفضاء الإعلامي والرقمي هو ميدانه الأوسع،

فالحروب الحديثة لا تُدار اليوم على الأرض فحسب، بل في العقول؛ إذ تُبنى المواقف، وتُصنع القناعات بالسرديات التي يروّجها الإعلام.

ويتابع قائلا:  وفي هذا السياق، تبرز قضية الشعب الأويغور في تركستان الشرقية التي تحتلها الصين منذ سبعة عقود  إحدى أكثر الملفات التي تجسّد معركة الحقيقة في العصر الحديث، فبينما تصرّ الحكومة الصينية على تقديم روايتها الرسمية الكاذبة التي تصف ما يجري بأنه “جهود لمحاربة الإرهاب والتطرف”،

وتتحدث التقارير الحقوقية والإعلامية المستقلة عن واقعٍ مختلف تمامًا؛ معسكرات اعتقال جماعية، محو ثقافي ممنهج، وتضييق على حرية المعتقد والهوية الدينية والهوية الثقافية.

إنّ المفارقة هنا هي أن الصين تمتلك آلة دعائية كبيرة جدا وهائلة؛ لأنها تمتد من القنوات الفضائية إلى المنصات الرقمية؛ إذ تحاول المنظمات الحقوقية والصحفيون المستقلون، مثل: مجموعة الإستقال الإعلامية، إيصال الصورة الحقيقية وسط بحرٍ من الرقابة والتضليل.

والحقيقة في قضية الشعب الأويغور لا تُخفى بالعنف فحسب، بل بالتشويش والتكرار والإغراق في التفاصيل الرسمية الكاذبة،

فحين تتكرر الرواية نفسها على لسان عشرات المصادر الحكومية والإعلامية الصينية، تُصبح الشكوك أقل لدى الجمهور غير المتخصص، وتتحول الأكاذيب مع الوقت إلى “حقائق” يصعب الطعن فيها.

لذلك، فإن معركة الأويغور اليوم ليست مجرد نضالٍ من أجل الحرية والكرامة، بل معركة على من يملك الحق في رواية القصة؛ مَنْ يحدد ما يُقال وما يُحجب، مَنْ يُسمع صوته مَنْ يُسكت.

وهنا تكمن خطورة الحرب الإعلامية؛ فهي لا تقتل الجسد كما تفعل الحرب العسكرية، بل تقتل الذاكرة والوعي ببطء، وبطريقة يصعب اكتشافها.

خلفية سياقية :

منذ منتصف العقد الماضي، بدأت حكومة الصين المحلية في تركستان الشرقية، حملة موسعة تحت شعار “الضرب بقوة ضد الإرهاب العنيف” Strike Hard Campaign Against Violent Terrorism، التي أُعلنت رسميًا عام 2014. بحسب تقارير ICIJ International Consortium of Investigative Journalists،

وقد قُدّمتْ هذه الحملة استجابةً لـ”التهديدات الأمنية” و”خطر التطرف الديني”، متهمًا جميع الشعب الأيغوري بالتطرف والإرهاب

لكن خلف هذا الغطاء الأمني، كانت هناك سياسات أكثر تعقيدًا وعمقًا تُنفَّذ على الأرض، منها: وجود أنظمة مراقبة رقمية غير مسبوقة، ونقاط تفتيش مزروعة في كل زاوية، وحملات اعتقال جماعية، والمعسكرات النازية؛ إذ إن هذه السياسات تستهدف ملايين التركستانيين من الرجال والنساء بدعوى محاربة الفكر المتطرف.

ووفقًا لتقارير ICIJ المسربة المعروفة باسم “China Cables”، فإنّ الوثائق الداخلية الصينية كشفت بوضوح أن هذه “المعسكرات التدريبية” لم تكن سوى منشآت احتجاز مغلقة،

يجري فيها إخضاع المعتقلين لبرامج فكرية قسرية تهدف إلى محو الهوية الدينية والثقافية للأويغور، واستبدالها بولاء مطلق للحزب الشيوعي الصيني.

ومع مرور الوقت، لم تَعُد المسألة أمنية بحتة، بل تحولت إلى مشروع إعادة هندسة اجتماعية كاملة؛ إذ جرى فرض اللغة الصينية الإلزامية في المدارس،

ومنع الأسماء الدينية التقليدية، وإجبار العائلات على استضافة موظفين حكوميين في منازلهم ضمن ما يُعرف بـ”برنامج الزيارات المنزلية”، وهو شكل جديد من الرقابة الاجتماعية تحت ستار الوحدة الوطنية.

وفي هذا السياق، لم يكن الإعلام مجرد ناقل للأحداث، بل أصبح جزءًا من المعركة نفسها، فمن جهة، توظّف بكين كل أدواتها الإعلامية الرسمية من القنوات المحلية إلى وكالة Xinhua وCGTN —

لتصوير الحملة بوصفها مشروعًا للتنمية والاستقرار، في حين تُغلق الأبواب في وجه الصحفيين الأجانب، وتُكمَّم أفواه الأصوات المحلية المستقلة.

ومن جهة أخرى، تسعى تقارير الصحافة الحرة والمنظمات الحقوقية، مثل Human Rights Watch وAmnesty International، إلى كشف ما يحدث خلف الكواليس، لكن وصولها إلى الميدان شبه مستحيل، إذ تُدار تركستان الشرقية اليوم كمنطقة مغلقة أشبه بـ”صندوق أسود إعلامي”.

إنّ الإجراءات الأمنية ليست سوى قطع على الرقعة، أما الهدف النهائي فهو إعادة رسم المشهد الاجتماعي والثقافي والديني للأويغور بالكامل، وجعل الرواية الرسمية الصينية هي الصوت الوحيد المسموع – سواء داخل الحدود أو خارجها.

آليات الحرب الإعلامية :

إعادة إنتاج الرواية الرسمية

منذ بداية الحملة الأمنية في تركستان الشرقية، أدركت الحكومة الصينية أن المعركة الإعلامية لا تقل أهمية عن الميدان الأمني، إذ بدأت بتشييد منظومة خطابية شاملة تهدف إلى إعادة صياغة الأحداث وتوجيه الرأي العام محليًا ودوليًا.

وتقوم هذه المنظومة على قاعدة بسيطة فعّالة: من يتحكم في السرد، يتحكم في الحقيقة.

تعمل السلطات الصينية عبر وسائلها الرسمية، مثل: وكالة شينخوا (Xinhua)، وقناة CGTN الموجهة للعالم، إضافة إلى شبكات التواصل الخاضعة للرقابة – على تقديم صورة وردية ومُنمّقة للحياة في تركستان الشرقية؛ إذ

وتُظهِر التقارير الإعلامية مواطنين “سعداء”، شبابًا يتعلمون مهارات جديدة، نساءً يشاركن في التنمية، ومناطق حضرية حديثة تفيض بالاستقرار والازدهار.

لكن ما لا يُعرض هو الوجه الآخر: المعسكرات المحاطة بالأسوار، والكاميرات التي ترصد كل حركة، والبيوت التي يسكنها الخوف أكثر من أهلها.

وفي تقرير لقنااة   Al Jazeera، أُشير إلى أن بكين باتت تدعو بانتظام وفودًا من الصحفيين الأجانب والدبلوماسيين لزيارة تركستان الشرقية ضمن ما تسميه “جولات إعلامية”؛ إذ تُنظّم الرحلات بدقة متناهية، ويُمنع المشاركون من الخروج عن المسار المحدد أو طرح الأسئلة الحساسة.

إنّ الهدف من هذه الجولات هو رواية “قصة شينجيانغ” كما تريدها الحكومة، أي بحسب سيناريو مسبق الإعداد يُقدّم المعسكرات على أنها “مراكز تدريب مهني” تهدف إلى محو الفقر والتطرف عبر التعليم والتأهيل، في حين يتم تجاهل شهادات الناجين وتقارير المنظمات الحقوقية التي تؤكد عكس ذلك تمامًا.

هذا التحول اللغوي المدروس – من “معسكرات احتجاز” إلى “مراكز تدريب” – هو أحد أخطر أدوات التلاعب الإعلامي، فهو لا يُغيّر المصطلح فحسب، بل يغيّر الانطباع العام؛ إذ يجعل المستمع يربط القضية بالتنمية والتدريب بدل القمع والعقاب.

وفي علم الاتصال، يُعرف ذلك بـ”التأطير اللغوي” (Framing Effect)، وهو أسلوب يُستخدم لتشكيل طريقة فهم الجمهور للمعلومة عبر اختيار الكلمات بدقة محسوبة.

على سبيل المثال، نشرت وكالة CGTN تقريرًا مصورًا بعنوان “Xinjiang: From Chaos to Stability” (شينجيانغ من الفوضى إلى الاستقرار)، يُظهر لقطات لمراكز حديثة تُدرّس اللغة الصينية والحرف اليدوية، دون أي إشارة إلى الطابع الإجباري لتلك البرامج أو إلى حقيقة أن المنتسبين إليها لا يملكون خيار الانسحاب منها.

وفي كل المواد الرسمية تقريبًا، تُقدَّم “التهديدات الإرهابية” مبررًا شاملًا لكل الإجراءات القمعية، في محاولة لإقناع العالم بأن ما يحدث ضرورة أمنية لا يمكن تجنبها.

أما داخليًا، فتستخدم السلطات المدارس والبرامج التلفزيونية والمسلسلات المحلية لترسيخ فكرة أن الأويغور “شعب بحاجة إلى التحديث”، وأن الدولة تقوم “بمساعدتهم على الاندماج”، في حين يتم تجاهل هذا الاندماج الذي يتم بطمس الهوية الدينية واللغوية والثقافية.

وهكذا تُنتَج رواية رسمية متماسكة ومكرّرة لدرجة أن المواطن الصيني العادي – وحتى بعض المتابعين في الخارج – يجد نفسه مقتنعًا بأن ما يحدث في تركستان الشرقية هو قصة نجاح تنموية وليست مأساة إنسانية.

إن هذا النمط من التحكم في الخطاب ليس جديدًا في التاريخ الصيني الحديث، لكنه في حالة الأويغور اتخذ أبعادًا غير مسبوقة؛ إذ تزامن مع ثورة رقمية وتقنيات مراقبة ضخمة سمحت بتوحيد الرسالة الرسمية وتضخيمها عالميًا عبر وسائل التواصل ومنصات الفيديو.

التعتيم ومنع الوصول إلى المعلومة

ربما يعدّ التعتيم الإعلامي أحد أخطر الأسلحة التي تستخدمها الصين في إدارتها لقضية الأويغور، فهو لا يكتفي بحجب الحقائق، بل يُعيد تشكيلها على وفق ما تريد الدولة أن يُقال، لا ما يحدث فعلًا.

فتركستان الشرقية اليوم ليست مجرد إقليم جغرافي مغلق، بل فضاء إعلامي معزول يندر أن يتسرّب منه صوت مستقل أو صورة غير مصرح بها.

وبحسب تقرير صادر عن منظمة مراسلون بلا حدود (Reporters Without Borders – RSF)، تُعد تركستان الشرقية من أكثر المناطق خضوعًا للعزل الإعلامي في العالم؛ إذ يُمنع الصحفيون الأجانب من التحرك بحرية، وتخضع تحركاتهم لمرافقة أمنية دائمة،

في حين تُراقب كل مقابلة أو تفاعل مع السكان المحليين بدقة، وغالبًا ما يتم استجواب أو احتجاز من يتحدثون إلى الصحفيين بعد مغادرتهم المنطقة.

لهذا، فإن المراسلين الصينيين العاملين في مؤسسات حكومية لا يملكون حرية نشر ما يشاؤون؛ إذ تُفرض رقابة مسبقة على المحتوى، وتُحذف أو تُعدّل أي مادة “تتعارض مع الخط الرسمي للدولة”.

إن هذا الجدار الإعلامي المحكم لا يُبنى فقط عبر منع الوصول المادي إلى المعلومات، بل أيضًا من خلال تقييد الفضاء الرقمي، فشبكات الإنترنت داخل تركستان الشرقية خاضعة لرقابة شاملة، والمكالمات الإلكترونية والرسائل تُرصد بصورة دائمة،

في حين تُستخدم أنظمة تحليل البيانات لتعقّب كل نشاط “مريب”. وبهذا، تصبح حتى محاولة التواصل مع الخارج مخاطرة قد تؤدي إلى الاعتقال.

ولعلّ أكثر ما يكشف قسوة هذا الواقع هو مصير الصحفيين الأويغور أنفسهم. وبحسب تقرير نشرته Voice of America، فإن عشرات الصحفيين من أصول أويغورية تمّ اعتقالهم أو إخفاؤهم قسريًا بتهم فضفاضة

، مثل: “التحريض على الانفصال” أو “نشر أخبار كاذبة” أو “التعاطف مع الإرهاب”، في حين كانت جريمتهم الوحيدة هي محاولة نقل الحقيقة.

ومن بين الأسماء البارزة التي وثّقها تقرير Uyghur Times: الصحفية غُلبهار هايت التي سجنت لسنوات بعد أن تحدثت عن تجربتها داخل أحد معسكرات الاحتجاز، والصحفي إلهام توختي، الأكاديمي الأويغوري المعروف، الذي حُكم عليه بالسجن مدى الحياة بسبب مقالاته التي دعت إلى الحوار والتفاهم بين القوميات.

تقول RSF في أحد بياناتها: ما يجري في تركستان الشرقية ليس مجرد قمع للصحافة، بل إبادة للمعلومة ذاتها. فالمصادر تُخنق قبل أن تتكلم، والقصص تُمحى قبل أن تُكتب.”

وحتى في الحالات النادرة التي يُسمح فيها للصحافة الأجنبية بزيارة المنطقة، تكون الزيارة محاطة بقيود صارمة، مسارات محددة مسبقًا، لقاءات معدّة سلفًا مع “مواطنين نموذجيين”، وإجابات محفوظة تكرّر الشعارات الرسمية.

هذه السيطرة المحكمة على المعلومة تُنتج فراغًا إعلاميًا خطيرًا، يُملأ لاحقًا بالرواية الرسمية وحدها. فالعالم، حين لا يملك مصادر مستقلة، يُضطر لتكرار ما تصدره الصين من بيانات وصور، ليصبح الإعلام الدولي – من دون قصد – جزءًا من منظومة التعتيم نفسها.

وهكذا، لا تُدفن الحقيقة في تركستان الشرقية   تحت الأنقاض أو بين الجدران، بل تُدفن في صمتٍ إلكتروني محكم، حيث لا يُسمح للضوء أن يتسلل، ولا للصوت أن يخرج، ولا حتى للشك أن يعيش.

التسليح الرقمي، الضغط والرقابة والمراقبة

لم تعد الحرب على الأويغور تدار فقط عبر المداهمات أو المعسكرات، بل باتت تُدار بخوارزميات وأجهزة استشعار. التكنولوجيا في تركستان الشرقية   لم تعد أداة للتنمية، بل أداة للهيمنة والسيطرة الاجتماعية.

في تقرير نشره المجمع الدولي للصحفيين الاستقصائيين (International Consortium of Investigative Journalists – ICIJ)، تم الكشف عن وجود نظام متكامل يُعرف باسم “منصة العمليات المشتركة” (Joint Operations Platform)،

وهي منظومة ضخمة تجمع وتُحلل بيانات من مصادر مختلفة: الكاميرات، نقاط التفتيش، شبكات الإنترنت، وتطبيقات الهواتف الذكية.

هذه المنصة تعمل بخوارزميات متقدمة تُصنّف الأفراد على وفق “مستوى الخطر”، ليس بناءً على ما فعلوه فعلاً، بل على ما قد يُحتمل أن يفعلوه.

ويكفي أن تمتلك أكثر من هاتف، أو تتوقف عن استخدام تطبيقات المراقبة الرسمية، أو أن تسافر كثيرًا بين المدن، لتُدرج في خانة “المشبوهين”.

يُظهر تسريب الوثائق الذي نشره ICIJ في ما عُرف لاحقًا باسم “China Cables” كيف تُستخدم التكنولوجيا لبناء ما يمكن وصفه بـ”المعتقل الرقمي” –

مساحة لا يمكن فيها للمواطن أن يخرج عن الخط إلا ويُرصد فورًا. فالكاميرات الموزعة في الشوارع والمدارس والمساجد

وهي مزوّدة بأنظمة تعرّف على الوجوه تعمل على مدار الساعة، وتربط بين ملامح الوجه وسجل الهوية والحركة والسلوك. وبذلك تتحول حياة الأويغور إلى نقاط بيانات تتحرك في شبكة مراقبة عملاقة، كل حركة فيها مرصودة، وكل صمتٍ محسوب.

وقد أشار موقع ChinaFile إلى أن الإنترنت في تركستان الشرقية   خاضع لرقابة تُشبه “جدارًا رقمياً” يفصل السكان عن العالم الخارجي.

كما تم حُظِرَت عشرات المواقع الإخبارية والثقافية الأويغورية المُدارة من الخارج، واختفت أخرى بعد ضغوط تقنية وإدارية. المنشورات التي تتحدث عن الدين، أو الهوية، أو حتى صور المساجد القديمة تُحذف بصورة شبه فوري من وسائل التواصل الاجتماعي الصينية.

والأخطر من ذلك، أن الشركات التكنولوجية الخاصة أصبحت ذراعًا للدولة في تنفيذ سياساتها؛ إذتُجبر على مشاركة البيانات مع الأجهزة الأمنية،

أو تُغلق تمامًا. بهذا الشكل، تتحول التكنولوجيا إلى قيد ذكي: لا تراكِب فقط، بل تُعيد تشكيل سلوك الأفراد عبر الخوف الدائم من أن “كل شيء يُسجَّل..

في إحدى شهادات الهاربين من تركستان الشرقية   التي وثقها BBC News، قال أحدهم: لم أكن أجرؤ أن أقول كلمة واحدة على الهاتف. كنا نعيش داخل نظام يعرف عنك أكثر مما تعرفه أنت عن نفسك.

الضغط النفسي الناتج عن هذا النوع من المراقبة الرقمية لا يقل قسوة عن السجن الفعلي، فهو سجن غير مرئي يجعل المقاومة الفكرية أو التعبير الذاتي شبه مستحيل.

والأدهى أن بكين تقدم هذا النظام للعالم على أنه “أنموذج للحوكمة الذكية ومكافحة التطرف”، في حين أن الحقيقة هي أنه مختبر ضخم للرقابة الحديثة.

في النهاية، يُظهر “تسليح التكنولوجيا” في تركستان الشرقية   أن الحرب لم تعد تدور فقط حول ما يُقال، بل حول من يُسمح له أن يتكلم، ومتى، وكيف.

فالصمت هنا ليس اختيارًا… بل نتيجة هندسة دقيقة للمجال العام؛ إذ تصبح كل نقرة، وكل إشارة، وكل نفس – جزءًا من معادلة الطاعة الرقمية.

الدعاية العالمية وتزييف السرد

لا يقتصر العمل الإعلامي الصيني على الداخل فقط على المستوى الدولي، بل يمتد إلى الخارج ليشكّل شبكة ضغط ودعاية عالمية تهدف إلى إعادة رسم الصورة العامة لتركستان الشرقية.

فبدلاً من أن تُروى المنطقة بوصفها مسرح اعتقال جماعي وانتهاك حقوق الإنسان، تعمل بكين على تصويرها على أنها أنموذج للاستقرار والتنمية؛ إذيعيش السكان في أمن ورخاء، ويستفيدون من برامج التدريب والتعليم المهني.

وبحسب دراسة أجرتها مؤسسة Uyghur Human Rights Project بعد تسريب ما عُرف بـ “China Cables” في 2019، لوحظ تزايد كبير في الأنشطة الدعائية الموجهة للخارج.

استثمرت الحكومة الصينية موارد مالية هائلة لإنشاء حملات إعلامية مصممة بعناية لتقويض أي انتقادات دولية، وتوظيف محتوى موجه لجعل العالم يرى تركستان الشرقية   كمنطقة آمنة ومستقرة، بعيدًا عن قصص الاعتقال والتعذيب والمراقبة الجماعية.

وقد أشارت المؤسسة إلى ما أطلقت عليه “فقاعة دعائية” (propaganda bubble)، أي حالة يتم فيها تضخيم الرواية الرسمية لتصبح هي المرجع الأساسي لدى جمهور عالمي واسع،

مع إخفاء أي صوت يعارضها. ولا تقتصر هذه الاستراتيجية على نشر الفيديوهات والتقارير الرسمية، بل تتعداها إلى التأثير الاقتصادي والدبلوماسي.

وتستخدم الصين علاقاتها التجارية والاستثمارات في الدول الأخرى، بما في ذلك في أفريقيا وأوروبا وآسيا، لضمان أن تتجنب وسائل الإعلام الأجنبية التطرق للنقد، أو حتى لتبني سردها الخاص عن تركستان الشرقية.

ويظهر هذا الأسلوب أن الحرب الإعلامية ليست محلية أو إقليمية فقط، بل دولية؛ إذتُدار شبكة من النفوذ والإغراء والضغط لتشكيل الرأي العام العالمي على وفق مصالح الدولة.

توضح الأمثلة العملية كيف تعمل بعض وسائل الإعلام الأجنبية أحيانًا على تكرار الخطاب الرسمي الصيني بلا نقد، سواء بسبب علاقات اقتصادية أو خوف من فقدان الوصول إلى السوق الصينية الضخم.

ولا يقتصر هذا التلاعب بالرواية الدولية على التشويش على الحقائق، بل يخلق إحساسًا زائفًا بالقبول العالمي للإجراءات الصينية، مما يُضعف الضغط على الحكومة للامتثال للمعايير الدولية لحقوق الإنسان.

إن فهم هذه الدعاية العالمية ليس مجرد تمرين أكاديمي، بل ضرورة للكشف عن القوة المهيمنة للإعلام في تشكيل الواقع الدولي.

فحين تُقيد المعلومات، وتُعيد صياغة الوقائع، ويُغلق المجال أمام التغطية الحرة، يصبح العالم كله – ولو عن غير قصد – جزءًا من آلة التضليل نفسها.

وهكذا، تتحوّل معركة الأويغور إلى معركة على الوعي العالمي نفسه؛ إذ إن الحقيقة ليست مجرد ما حدث، بل ما يُسمح للآخرين أن يعرفوه.

تداعيات هذا الصراع على المعلومة والوعي

الحرب الإعلامية على الأويغور لا تقتصر آثارها في الذين يعيشون في تركستان الشرقية   فقط، بل تمتد لتشمل كل من يسعى إلى فهم ما يحدث أو محاولة نقل الحقيقة. فعندما تُبنى المقالات والتقارير على المصادر الرسمية وحدها، تصبح الصورة ناقصة أو مشوهة، حتى لو بدا المحتوى حياديًا للوهلة الأولى.

إن إحدى الطرائق التي تستخدمها السلطات في هذا السياق هي التلاعب اللغوي، فعلى سبيل المثال، المصطلحات التي تصف معسكرات الاعتقال تُستبدل بعبارات، مثل: “مراكز تدريب مهني”، ما يجعل القارئ الخارجي يربط هذه المعسكرات بالتعليم أو التنمية بدلًا من القمع والاحتجاز القسري.

الإضافة إلى ذلك، تعيد الحكومة تسمية القرى والمواقع ذات الدلالة الدينية أو الثقافية، جزءًا من محاولة محو الذاكرة الجماعية للشعب الأويغور،

وبحسب تقرير Al Jazeera، تم تغيير حوالي 630 قرية في تركستان الشرقية   من أسماء تحمل رموزًا دينية أو ثقافية إلى أسماء عامة، مثل: “وحدة” أو “سعادة”، وهو ما يمحو جزءًا من التاريخ والهوية الجماعية.

ويؤثر هذا التلاعب بالمعلومة أيضًا في وسائل الإعلام التي يُفترض أنها محايدة؛ إذ إنالتقارير التي تُكتب أو تُنشر بعيدًا عن الرقابة المباشرة، غالبًا ما تعتمد على مصادر حكومية أو غير مستقلة، مما يجعلها عرضة لتكرار الرواية الرسمية.

ومن ثَمّ، يصبح الجمهور الدولي محرومًا من الصورة الكاملة، ومن قدرته على تقييم الوضع بصورة موضوعية أو ممارسة الضغط على السلطات بالفهم الدقيق للأحداث.

على المستوى الأعمق، هذه الحرب الإعلامية تعني أن الحقيقة نفسها تصبح أداة متغيرة بحسب من يملك القوة على السرد، وأن المعرفة ليست مجرد نقل وقائع، بل ساحة صراع بين الروايات المتنافسة.

إن نتيجة هذا الصراع هي خلق وعي مشوّه أو ناقص لدى العالم الخارجي؛ إذ يصعب على الأفراد أو المؤسسات المراقبة والتحقق، ويزداد خطر قبول الرواية الرسمية كما هي، دون مساءلة أو تحليل.

باختصار، ما يصلنا من معلومة – حتى من وسائل الإعلام الدولية أو “المحايدة” – ليس دائمًا حرًا أو مكتملًا، ما يجعل القضية الأويغورية مثالاً صارخًا على كيف يمكن للسيطرة على الإعلام والمعلومة أن تُغيّر فهم العالم لأزمة إنسانية

لماذا يهمنا كصحفيين وباحثين ومشاهدين؟

قضية الأويغور ليست مجرد خبر بعيد، بل اختبار حقيقي للصحافة الحرة والمساءلة الدولية. وهناك أسباب عدة تجعل متابعة هذه القضية وفهمها أمرًا ضروريًا:

أولًا: إعادة تمكين الضحية

الإعلام الحر يمكنه أن يعيد الصوت لأولئك الذين يُسحب منهم، ويمنحهم مساحة للتعبير عن معاناتهم. الأويغور مثال حيّ على أصوات تُحاول السلطات إسكاتها أو تحويلها، وهنا يأتي دور الصحفيين والباحثين لنقل هذه الرواية، ومنح الضحايا فرصة ليُسمعوا للعالم.

ثانيًا: مسؤولية التغطية الدقيقة

نقل الوقائع وحده لا يكفي؛ على الصحفي أو الباحث أن يتحرى مصادره، ويطرح الأسئلة الحرجة، ويكشف عندما يُستخدم الإعلام أداةً للقمع أو التضليل،

وهذا يتطلب وعيًا نقديًا، ومهارات للتحقق من صحة المعلومات، وقدرة على التمييز بين الحقيقة والرواية الرسمية المصممة لتضليل الجمهور.

ثالثًا: تأثير على الرأي العام والدبلوماسية

الرأي العام العالمي يُشكّل جزءًا أساسيًا من الضغط على الحكومات والمؤسسات الحقوقية، وذلك حين يُبنى الرأي العام على معلومات ناقصة أو مشوهة، يقل تأثيره، وينخفض الضغط على الجهات المسؤولة عن الانتهاكات.

لذلك، فإن فهم الحقائق بعمق، يسهم في زيادة الشفافية والمساءلة الدولية، ويمنح المجتمع المدني القدرة على التأثير بالرصد والمناصرة.

رابعًا: مفهوم “الحرب” الإعلامية

ما يحدث ليس مجرد مواجهة بين الحقيقة والكذب، بل هو صراع على المنصة الرقمية نفسها. وهناك من يمتلك القدرة على الوصول إلى منصات الإعلام، والتحكم في الرسائل، ومن يُمنع أو يُراقب عن كثب.

إن الوعي بهذه المعركة، يضع الصحفي والمشاهد والباحث في موقع المراقب النشط، ليس فقط لنقل الأخبار، بل لفهم آليات القوة والتلاعب بالمعلومة وكيفية مقاومة التضليل.

باختصار، متابعة قضية الأويغور تتجاوز مجرد تغطية حادثة إنسانية؛ لأنها دعوة لفهم ديناميكيات الإعلام، الرقابة، والتحكم بالمعلومة، وفهم دور كل فرد في تشكيل وعي الجمهور العالمي، والمساهمة في كشف الحقيقة والدفاع عن حقوق الإنسان.

في نهاية المطاف، قضية الأويغور ليست مجرد ملف جغرافي أو نقطة على الخريطة، بل مرآة لاختبار الدور الذي يؤدّه الإعلام في العصر الحديث، فحينما يُستخدم الإعلام سلاحًا، وحينما تتحكم الرقابة الرقمية في المعلومات، تصبح الحقيقة أداة قابلة للتشكيل والتحريف، والوعي الجماعي عرضة للسيطرة.

تتطلب معالجة هذه الحقيقة جهدًا مستمرًا ومسؤولية مشتركة:من الصحفيين، عبر نقل الواقع بدقة، والتحقق من مصادرهم، ومواجهة التضليل بلا خوف.

ومن المنظمات الحقوقية، عبر الضغط على الحكومات، ونشر تقارير مدعومة بالأدلة، وكشف الانتهاكات مهما حاولت السلطات إخفاءها.

من كل فرد يمتلك صوتًا أو منصة، حتى لو كانت محدودة، عبر نشر المعلومات الصحيحة، وتسليط الضوء على ما يُحاول الآخرون إخفاءه.

إن الصمت هنا ليس مجرد خيار، بل مشاركة ضمنية في التشويه والقمع. فغياب الصوت الحر والمعلومة الدقيقة يعني السماح للقوة بأن تُعيد كتابة الواقع، وتغيير التاريخ، وإسكات من هم الأكثر عرضة للظلم.

وتذكّرنا قضية الأويغور أن المعركة على الحقيقة والوعي لا تنتهي عند الحدود الجغرافية، بل تمتد إلى كل مكان يصل فيه الإعلام الرقمي. وبقدر ما نواجه التضليل، نساهم في حماية حقوق الإنسان، وإعادة تمكين الضحايا، وضمان أن تظل الحقيقة حرة ومرئية.

إنها دعوة إلى اليقظة، والتمسك بالحق، والعمل المتواصل؛ لأن من يمتلك القدرة على الكلام والفضاء الرقمي، يمتلك القدرة على حماية العدالة، أو تسهيل القمع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock