محمد عبد الباسط عيد يكتب :تنوير الست

وإذا كانت الأغنية – عند أم كلثوم – خطابًا، فإن هذا الخطاب جزء لا ينفصل عن السياق التاريخي والاجتماعي، والأهم أنه جزء من وعي أم كلثوم وتفاعلها مع هذا السياق، ويمكننا الحديث عن دوائر وعي واضحة لديها، وهي: الدائرة المصرية والعربية والإسلامية (أحمد يوسف: أم كلثوم الشعر والغناء)، وطبقًا لهذا الوعي كانت تختار أغانيها من عيون الشعر القديم والمعاصر: من محمد إقبال وعمر الخيام إلى «أبو فراس الحمداني» وكمال الدين بن النبيه المصري، وأحمد شوقي وأحمد رامي وبيرم التونسي ومأمون الشناوي… إلخ. وهي بهذا التواصل العميق تمكنت من ربط جمهورها بدوائر انتمائه المعرفية والجمالية والدينية، وتمكنت – بنعومة الموسيقا وجمالية الكلمات – من إنجاز الوصل التنويري بطابعه المدني الفريد، فلا تعارض بين قيم التراث وقيم المعاصرة، بل لا تعارض بين الوطنية والقومية وامتداداتهما الإنسانية في أفقها الرحب.
ولعلك لو تأملت قليلاً لرأيت أن هذه المصالحة الفذة بين الدوائر المتعددة للوعي المصري والعربي التي نجح فيها الغناء هي ما عجزت عنه مؤسسات أخرى وأسماء عظيمة الحضور في تلك الحقبة، هذه المصالحة جوهر مشروع التنوير العربي الذي تراجعت وعوده بداية من النصف الثاني من القرن العشرين، حتى وجدنا علمًا مثل طه حسين يودعنا «بكثير من الألم وقليل من الأمل» بعد أن رأى إخفاق مشروع التنوير أو على الأقل تراجع تأثيره. (غالي شكري: ماذا بقي من طه حسين).
ولا يعود ذلك النجاح إلى «بهجة الغناء» أو «بهجة التنوير» الكلثومي، بقدر ما يعود بالأساس إلى تلك الروح الفريدة التي تمتعت بها أم كلثوم، ووعيها بطبقات الهوية، وإصرارها على خلق نموذج تنويري «تصالحي» أو لا تتعارض فيه هذه الطبقات، فلم تخضع للنموذج الغنائي الهابط الذي كان سائدًا في عشرينيات القرن الماضي، ولم تتماه مع الروح التغريبية التي انغمست فيها الطبقة العليا، بأغانيها ولغتها وعاداتها، ولكنها ناضلت من أجل نموذج إبداعي خاص، لا يتجاهل قيم المجتمع، ولا عقائد الجمهور، وفي الوقت نفسه يستفيد منجزات الحداثة ويتطور معها.
تمكنت أم كلثوم مع الوقت من خلق (نموذجها) الغنائي الحداثي الفريد الذي ينطق بلساننا ويعبر عن وجداننا ويتصالح فيه حاضرنا مع ماضينا، ويتصالح فيه هذا وذاك مع قيم العصر وروح الإنسانية الرحبة… ولنا أن نعد أم كلثوم، من هذه الزاوية، أحد كبار التنويريين في عالمنا المعاصر، وليس من الحكمة تجاهل هذا الدور الذي قامت به، بل ليس من الحكمة تجاهل دور الغناء التنويري في تلك الفترة بشكل عام.









