رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب : الكتاب الأسود

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

عشية تحرير فرنسا اكتشف الفرنسيون ان البير كامو هو رئيس تحرير صحيفة الكومبا Combat للمقاومة السرية الفرنسية المطاردة من الغستابو البوليس السري الالماني من مكان الى مكان وتم أعدام بعض محرريها، وكان مقال ليلة التحرير موقعا باسم البير كامو لاول مرة بعنوان” باريس تطلق الليلة اخر رصاصاتها” .
صدمت النخبة الفرنسية ان يكون كامو المنعزل الناحل من يقف خلف الصحيفة ووصفه سارتر بالبطل القومي.
لكن المشكلة التي أثيرت قضية المتعاونين مع الاحتلال والسجال الفكري بين كامو وبين الروائي فرانسوا مورياك وكلاهما حامل نوبل، حول “المتعاونين” (Collabos) مع النازية وكان كامو يطالب باعدام هؤلاء خاصة المثقفين لان المثقف مسؤول مثل روبرت برازيلاك الذي أعدم .
كان كامو يقول” خيانة الكلمة أشد خطراً من خيانة السلاح” و” التسامح مع القتلة والوشاة خيانة للضحايا” وكان فرانسوا مورياك الكاثوليكي يطالب بالغفران والرحمة لان الانسان حسب معتقداته الدينية لا يتحمل خطيئة ثانية.
وكان رد كامو” من سيجرؤ على التحدث عن المغفرة؟” معتبراً أن شرف فرنسا لا يستعاد إلا عن طريق العدالة الصارمة.” القصاص للضحايا افضل طرق الغفران”.
لكن عملية التطهير فشلت بعد ان تم اعدام الصغار ونجاة كبار العملاء الذين تعاونوا مع النازية مما جعل كامو يغير موقفه ويصدر عام 1944 كتابه الشهير” المقصلة” ضد حكم الاعدام لان الدولة غير مخولة بذلك.
احتلت النازية النرويج في 9 نيسان 1940 وحكمت من خلال حكومة عميلة من شخصية نرويجية هو فيدكون كيسلينغ Vidkun Quisling كرئيس وزراء الذي أعدم بعد التحرير في قلعة أثرية وصار اسمه رمزاً للعار وشتيمة وعندما تقول لشخص أنت كيسلي فسوف يعتبر ذلك إهانة.
لم تتوقف الاعدامات على رئيس الوزراء بل قامت المقاومة النرويجية من خلال محاكم بإعدام المتعاونين والمتعاونات وقد طافوا بهن في الشوارع حليقات الرأس، وحتى اليوم ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية ترفض النساء المتزوجات من جنود ألمان الاعتراف بالأبناء ويفضلن التخفي والسرية على مواجهة العار حتى صدر قرار قبل سنوات قلائل بغلق هذا الملف.
وكان من بين من واجه حكم الاعدام الروائي النرويجي كنوت همسون حامل نوبل وأستاذ الرواية حسب وصف وليم فوكنر الروائي الأمريكي لأنه قابل هتلر لغرض الافراج عن معتقلين من المقاومة بعد أن أشاد بهتلر وخلال المقابلة حدثه هتلر باعجاب عن روايته” وإخضرت الأرض” المترجمة للعربية لكن كنوت همسون المحافظ والذي يعيش في عزلة ريفية والمعتز بنفسه كان يعتقد انه أهم من هتلر الذي لم يكن يصغي له، لذلك قال هامسون باللغة الألمانية ” كأنني أتكلم مع حائط أصم”.
وعندما سمع هتلر العبارة حدق فيه كما يحدق الموت واشار له من دون كلام بالخروج وخرج هامسون وهم يشم رائحة الموت غير مطمئن لسلامته وبعد التحرير وقف أمام محكمة بتهمة التعاون مع المحتل وكانت المحكمة التي استمرت عامين على وشك اصدار حكم الاعدام لكن محاميه قال إن هامسون رجل مسن ويعاني من الخرف لانقاذه مما أغضب هامسون وجعله يؤلف كتاباً ليثبت للمحكمة انه بكامل قواه العقلية.
لكن حملة عالمية انقذته شارك فيها سارتر وهمنغواي ووليام فوكنر قامت على أساس أن هامسون منعزل ولا تتوفر وسائل اتصال غير الراديو والصحف وخُدع بشعارات النازية وأطلق سراحه بغرامة محقرة.
عند فوزه بجائزة نوبل رفض الخروج للشرفة لتحية المهنئين لو لا الحاح زوجته الطيبة ماريا التي تحملته بصبر أسطوري لكنه اشترط عليها القاء كلمة قصيرة وفي الشرفة أطنبت ماريا في ملحمة شكر طويل لجاراتها وصديقاتها مما أغضب هامسون العنيد فقال لها على مسمع الحضور:
” نحن لم نتفق على هذا؟”
بعد هزيمة الغزو النازي للاتحاد السوفيتي أصدر الروائي ايليا غوتنبيرغ مؤلف رواية” ذوبان الثلج” الصرخة المدوية ضد الستالينية وسط الصمت والترقب بعد موت ستالين مع الكاتب الروائي فاسيلي غروسمان ” الكتاب الأسود” عن جرائم النازية وعن المتعاونين ـــــــــــــــ كلاهما من أشد أعداء ستالين لكن الأرض باقية والنظام الزائل ـــــــــــ من اجل خلق تقاليد وطنية رادعة للمستقبل وكوصمة عار للتاريخ وكجزء من خلق تقاليد وطنية رادعة ووقائية.
بهذه الطريقة تخلق الشعوب تقاليدها الوطنية وحتى اليوم لم يتوقف الأدب النرويجي في الحديث عن عملاء النازية كما في رواية ” تصفية الخونة” للروائي جو نيسبو ــــ مترجمة للعربية مع ملف كامل مع باقي رواياته ومع الاسف القارئ العربي لا يعرف الكثير عن الادب الاسكندنافي وهو يختلف عن الادب الاوروبي والعالمي حيث لا اعاصير وتحولات سياسية عاصفة تقلب حياة الناس ولا حروب مباغتة.
قبل احتلال العراق طالب 350 من الشعراء والروائيين والكتاب باحتلال العراق في رسالة الى الرئيس الامريكي ورئيس وزراء بريطانيا ثم رسالة شكر بعد الاحتلال وهي ظاهرة لم تحدث في التاريخ ولن تحدث لان دور المثقف ليس مع دكتاتورية متوحشة ولا مع مشروع احتلال للسيطرة والنهب بل دوره فضح مشروع الاحتلال وليس منعه لانه مقرر قبل تاريخه بسنوات . من المفارقات ان ادباء وكتاب الولايات التحدة واوروبا كتبوا للرئيس الامريكي ولرئيس الوزراء البريطاني وقف مشروع الحرب من خبرة تاريخية بحروب النهب والدمار الامريكية.
عاد 350 من الموقعين على مشروع الاحتلال الى العراق واختلقوا قصصاً ملفقة عن اسباب خلافنا معهم بضرورة فضح مشروع الاحتلال لكي لا تكبس الناس نياماً. بدل كثيرون منهم المعاطف لا المواقف بعد انكشاف ما اطلقوا عليه:” مشروع التحرير” واستغلوا ميزة ان العراقيين يومها كانوا في قطيعة اعلامية مع العالم فلا انترنت ولا هواتف نقالة ولا احد يعرف طبيعة النقاشات في الخارج حول الاحتلال الامريكي ونتائجه التي توقعت قلة من الكتاب انه مشروع خراب وتعرضوا لحملة سوقية منظمة منسقة من قبل كتاب الاحتلال أو” احذية المارينز” بتعبير ادوارد سعيد أو وشاة الغزاة أو المثقف الكومبرادوري Comprador الوسيط الثقافي والسياسي بين القوى الخارجية وبين مجتمعاتهم لصالح الخارج .
هل يستحق هؤلاء من اجل الذاكرة والمستقبل ” الكتاب العراقي الأسود”؟ نحن من الشعوب التي لا توثق لذلك نكرر الكوارث وهؤلاء يعرفون ذلك جيداً ويعرفون ان الذاكرة العامة مبتورة أو مغيبة. قبل حرب 5 حزيران 67 طلب وزير الدفاع موشي ديان خط حرب عام 56 مع مصر فقال له الجنرالات” لكن العرب يعرفون الخطة؟”فقال ضاحكاً: “العرب لا يقرأون التاريخ” ونفذها فعلاً وهزم 3 جيوش عربية.
ــــــــــــــــــــــــ نحتفظ بقائمة 350 من الموقعين وكثير منهم من الاسماء الثقيلة بعد ان قاموا بمحوها من المنابر بعد انفتاح العراق على الفضاء الاعلامي: ارادوها جريمة بلا أثر.
ــــــــــــــــ في كتاب” خطة الهجوم” يذكر الصحافي الامريكي بوب وودورد أكثر كتاب أمريكا مصداقية ومن أسقط الرئيس نيكسون في فضيحة ووترغيت ومصادره عليا مخابرات وجنرالات واصحاب قرار، ان الرئيس الامريكي بوش امتلك 3 خيارات بدل غزو العراق: 1 الاغتيال وقدمت خطة جاهزة ومضمونة و2 قبول صدام النفي شرط عدم الملاحقة وحافظ على الخطاب الحماسي 3 انقلاب عسكري داخل القصر ينفذه ضباط كبار على صلة ببلد عربي مجاور علاقاته مع النظام طيبة. لكن بوش رفض كل هذه الخيارات التي تحافظ على مؤسسات الدولة وقطع الرأس لان المشروع تدمير دولة وسلطة ومجتمع وعملية نهب كما صار واضحاً الآن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock