العربية: سيرة المعنى وميزان الوجود…. بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

في الثامن عشر من كانون الأول، تحتفل الإنسانية باليوم العالمي للغة العربية. نحتفل بلغةٍ ليست مجرد أداة تواصل، بل كيان حيّ ينبض بالوجود والمعنى، ويشع نور الفكر في العقول والقلوب. العربية ليست صوتًا يُسمع، ولا لفظًا يُتلفظ، بل روحٌ تتسلل إلى الوعي، فتعيد تشكيل الإنسان كما تريد، قبل أن ينطق بها، وتفتح أمامه أبواب إدراك لا تُرى بالعين، ولا تُحاط بالبصيرة.
هذا اليوم العالمي للغة العربية ليس مجرد مناسبة رمزية، بل فرصة لتقدير لغةٍ حملت الحضارات على أكتافها، ونسجت بها الفكر والفن والعلم، وجعلت من الكلام جسراً بين الشعوب، ومن الحروف بوابة للمعرفة والوعي. في هذه المناسبة، يظهر دور العربية كلغة حياة، ولغة إدراك، ولغة هوية تجمع بين الماضي والحاضر، بين الفكر والوجدان، بين الروح والتاريخ.
ليست العربية لفظًا عابرًا، ولا أداة تواصل محايدة، بل كيان حيّ يتنفّس في العقول، ويخفق في القلوب، ويتسلّل إلى الأرواح، فيعيد تشكيل الوعي قبل النطق، ويمنح نور الإدراك قبل الطلب، ويفتح أبوابًا للحياة لا تُرى بالعين، ولا تُحاط بالبصيرة. إنها لغة لا تُستقبل فقط، بل تُقيم في الداخل، وتعمل في الصمت قبل الجهر، وفي الفكرة قبل العبارة.
العربية بيانُ البيان، وصرحُ المعنى، وميزانُ الفكر، ومرآةُ الوجود. تجمع النقيضين دون أن تُفجّر الصراع بينهما، بل تُخضعهما لإيقاع دلاليّ دقيق: حياةٌ تُفهَم بالموت، ونورٌ لا يُدرَك إلا بالظل، وسكونٌ لا يُسمَع إلا إذا جاوره الضجيج. وفي هذا التوازن العجيب، لا تنكسر اللغة ولا تختلّ، بل تزداد اتساقًا وعمقًا، إذ تمنح الكلام روحًا قبل أن تمنحه زخرفًا، وتمنح المعنى عمقًا قبل أن تمنحه صيغة.
هي بحرٌ بلا ساحل، ونهرٌ بلا مجرى ثابت، وغيمةٌ بلا مطر، لكنها تفيض في الفكر قبل أن تفيض في اللسان. حروفها مفاتيح للوعي، وتراكيبها مرافئ للمعنى، وأساليبها رياح تدفع الدلالة حيث تشاء. كل من ظنّ أنه أحاط بها، اكتشف أنها أوسع من الإدراك، وكل من حسب أنه أمسك بأسرارها، أدرك أنها تسبقه دائمًا بخطوة، وتفتح له أفقًا لا ينتهي، أفقًا يتجاوز الزمان والمكان.
نزل بها القرآن، فارتقى الصوت من حدود الحكاية إلى مقام الإعجاز، وصار اللفظ هداية، والمعنى تكليفًا، واللغة وعيًا أخلاقيًا وتاريخيًا في آن. وكما قال ابن خلدون:
«اللغة من جملة الملكات، وهي شعار الأمم، وبها يتميّز الناس بعضهم عن بعض.»
بهذه اللغة تشكّلت أدوات الفيلسوف، وانبسط جناح الشاعر، وأُضيء مصباح العالِم، وتخلّق وجدان العاشق. وكل من لامس العربية أدرك أنها أكثر من كلام، وأكثر من معنى، وأكثر من وسيلة، بل هي شرط للفكر ذاته. وقد صدق طه حسين حين قال:
«إنما اللغة مظهر من مظاهر العقل، وأداة من أدوات التفكير.»
وفي يومها العالمي، لا يكفي الاحتفاء الرمزي، بل يقتضي الأمر وعيًا بدورها في كل حرف، واستشعار حياتها في كل كلمة، وترك المجال لها لتُعيد تشكيل الوعي مع كل قراءة، وكل تأمّل، وكل ممارسة فكرية. فالعربية لا تُستعمل فقط، بل تُمارَس، ولا تُستهلك، بل تُسكن.
إنها لغة تتكلم بالإنسان قبل أن يتكلم بها، وتصوغ الوعي كما تصوغ المعنى، وتعيد ولادة الفكر في كل حرف، وفي كل جملة، وفي كل أفق دلالي جديد. وفي هذا الامتزاج العميق، يتوحّد الإنسان واللغة في وحدة الإدراك والمعنى.
كل عامٍ والعربية حيّة في الوعي الإنساني،
كل عامٍ وهي ميزان العقل، ومرآة الفكر، وصرح الوجود، وحياة المعنى؛
كل عامٍ وهي اللغة التي لا تُحاط، ولا تُستنفد، ولا تُختزل،
اللغة التي لا تُفهم إلا لمن أنصت للفكر، وخضع للمعنى، وأحبّ الحرف قبل النطق به،
فبها يُعاد خلق الإنسان، حرفًا حرفًا، وكلمة كلمة، ومعنى بعد معنى.
إن العربية ليست مجرد لغة تُتداول، بل كيان حيّ يُعيد خلق الوعي والإنسان مع كل حرف يُنطق، ومع كل كلمة تُقرأ. إنها جسر بين الفكر والروح، ومفتاح لفهم الذات والعالم، ومرآة للتاريخ والحضارة. وفي يومها العالمي، تتجلى قيمتها ليس في اللفظ وحده، بل في القدرة على التأمل، والإبداع، وإعادة تشكيل الإنسان من الداخل.
كل حرفٍ فيها هو بداية جديدة، وكل كلمة شعاع نور، وكل تركيب نافذة على عالم لا يُرى إلا بالمعنى والفكر. وبالعربية، يُصبح الإنسان أكثر وعياً، وأكثر قدرة على العيش في تناقضات الحياة وفهم أبعادها، فهي لغةٌ للوجود، وللإدراك، وللخَلق المستمر.
في الختام، تبقى العربية الحية، التي تتجاوز حدود الكلام والمعنى، لغةً تُعيد اكتشاف الإنسان مع كل قراءة، وتترك له الحرية أن يُولد من جديد في كل حرف، وفي كل كلمة، وفي كل معنى.









