مصطفي السعيد يكتب :إهداء إلى “الست”

لماذا تربعت “الأطلال” على عرش الغناء العربي طوال هذه العقود؟
أغنية “الأطلال” للست أم كلثوم تُعد الأغنية العربية الوحيدة التي اختيرت من أهم مائة أغنية في العالم في القرن العشرين.. أعتقد أنها كانت ومازالت الأغنية الأكثر إكتمالا من حيث الكلمات واللحن والغناء.
تبدأ الأغنية بمقدمة سيمفونية شرقية الطابع للعبقري رياض السنباطي، مقدمة متفردة تبدأ بالكونترباص الذي لا يُعزف منفرداً أبداً، يهز مشاعرك بقوة، وكأنك أمام حدث أو نذير ما، هكذا بدأت أولى مفاجآت السنباطي، بمقدمته الموسيقية التي تأخذك إلى الحالة الوجدانية للمعنى، أبطالها آلات القانون والكمان والكونترباص في عزف حر (بدون إيقاع)، ثم يفاجئك ثانيةً باختيار مقام نادر للغاية “الهُزام”، الذي لا تسمعه إلا في القليل جدا من الإنشاد الديني وندرة من الأغنيات؟ فهو يجمع بين الشجن والشموخ والخشوع، بينما كان المنطقي أن تكون أغنية باسم “الأطلال” مقامها الموسيقي الرئيسي “الصبا” المعروف بتعبيره عن الحزن والشجن، لكن السنباطي المبهر لمس جوهر المعنى “شجن وشموخ وخشوع معاً” إنها الخلطة السحرية للحن الأطلال، التي مزجت بين مقامات عدة، حتى في المقطع الواحد، لكن ظل مقام “الهُزام” عمودها .. في مقطعها الأول الذي يخاطب القلب “يا فؤادي لا تسل أين الهوى .. كان صرحا من خيال فهوى”.
إختصر هذا الشطر الشعري تجربة يندر ألا يعيشها أي إنسان، يأخذه إلى وهج عاطفي الذي لا يتكرر، ثم ينهار فجأة بشكل يصعب تصديقه، من أول شطر في القصيدة الأجمل والأشهر لإبراهيم ناجي، يضرب على أشد أوتار حياة كل منا حساسية، قصة الحب الأقوى التي لا تكتمل، الحب الذي نظل نعيش ذكراه مهما طال الزمن، لأنه حلم كوميض شهاب عشناه بكامل تألقه عشناه وكأنه سيبقى للأبد، لكن لم يتبق منه سوى رماد أطلال الذكريات.
الحب المتدفق كسيل جارف من الأحلام والأمنيات والتحليق في سحر لا نهائي، يتساءل بذهول “كيف ذاك الحب أمسى خبرا؟” ثم يمنحنا إشارات تحمل جانبا من الإجابة:
“لست أنساك وقد أغريتني، بفم عذب المناداة رقيق، ويد تمتد نحوي، كيد من خلال الموج مدت للغريق؟”
هذا ليس غزلاً ولا مدحاً، إنما رؤية وجدانية لمكانة الحبيب بصور شعرية غاية في العذوبة والروعة، فالحب مثل اليد التي يمدها الحبيب ليبعث فيه الحياة بعد أن انقطعت عنه الأنفاس غرقاً.
لنتأمل كيف أدت “الست” مع لحن السنباطي تلك الكلمات لتتوغل إلى مشاعرك بانسيابية، معبرة بدقة عن المعنى، فعندما تقول “أين الهوى” تمتد نغمة الهوى عدة مسافات صوتية، لأن الحب مداه واسع. أما عند قول “كان صرحاً من خيال فهوى” هنا تمتد “خيال” إلى مدى أوسع وأطول، بينما “فهوى” قصيرة للغاية، في تعبير عن الصدمة المباغتة.
في مقطع: “يا حبيا زرت يوما أيكه..طائر الشوق أغني ألمي”، أختلف مع من يفسرون “أيكه” بالمعنى المباشر “حديقته أو بستانه”، وأرى معناه أن أي مكان فيه الحبيب يصبح حديقة أو بستان بالمعنى النفسي، حتى لو كان اللقاء على الكورنيش أو الرصيف أو قهوة بلدي. وطائر الشوق ليس بمعنى طائر حقيقي وإنما حالة طيران بأجنحة الشوق.
أما مقطع: “أعطني حريتي أطلق يديا، إنني أعطيت ما استبقيت شيئا، آه من قيدك أدمى معصمي، لما أبقيه وما أبقى عليا” فهو إعلان تمرد على حالة الأسر المعنوي، لحبيب لم يصن العهود. لكنه يعود ليسأل “أين من عيني حبيب ساحر فيه عز وجلال وحياء؟” فإنه يأتي ليكشف أن محاولة الفكاك من الأسر لا تجدي.
وأروع ما في المقطع كان الوصف المتفرد للحبيب، ليس بجمال العيون أو الملامح الجسدية، وإنما وصف حضوره المعنوي: “ساحر، فيه عز وجلال وحياء. واثق الخطوة يمشي ملكا، ظالم الحسن شهي الكبرياء. عبق السحر كأنفاس الربى. ساهم الطرف كأحلام المساء”. هذا الغزل يتجاوز محاسن الجسد ليصف حضور الحبيب الروحي والمعنوي.
أما مقطع: “هل رأى الحب سكارى مثلنا؟ كم بنينا من خيال حولنا، ومشينا في طريق مقمر، تثب الفرحة فيه حولنا، وضحكنا ضحك طفلين معا، وعدونا فسبقنا ظلنا”، الذي اقتطعه الشاعر أحمد رامي من قصيدة “الوداع” لإبراهيم ناجي أيضاً، فجاء منسجما ومكملا لمقاطع قصيدة “الأطلال” التي اختارها رامي بكل إتقان وحس رهف وتجرد، لتظهر الأغنية بأبهى صورة. إنه مقطع جسد حالة الحب وأبهى تجلياته ومشاعره التي تسكر المحب الغارق في اندماج مع الحبيب.
نأتي إلى أهم مقاطع الأغنية، عندما يفيق الحبيبان على الواقع بكل ثقله وهمومه، من حسابات المجتمع ونظرة وتأثير المحيطين الذين لا يقيمون وزنا للمشاعر وعالمها الأسطوري الغارق في جمال الحب. “وانتبهنا بعدما زال الرحيق، وأفقنا ليت أنّـا لا نفيق. يقظة طاحت بأحلام الكرى، وتولى الليل والليل صديق، وإذا النـور نذيـرٌ طـالـعٌ، وإذا الفجر مطلٌ كالحريـق، وإذا الدنيـا كمـا نعرفـهـا، وإذا الأحباب كلٌّ فى طريق.
نأتي إلى المقطع الأخير، والأكثر إشكالية، والذي تسبب في تأخر غناء الأغنية لسنوات ” يا حبيبي كل شيء بقضاء، ما بأيدينا خلقنا تعساء، ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم بعدما عز اللقاء، ومضى كل إلى غايته، لا تقل شئنا فإن الحظ شاء”.
هنا عاد السنباطي إلى مقام “الهُزام” بعد أن تنقل بنعومة وانسجام بين عدة مقامات، بصوت الست الذي لا يستطيع غيرها التنقل به، لتتمازج الكلمات واللحن والصوت في تمازج لا يبارى.
لكن الست اختلفت مع السنباطي حول الشطر الأخير “لا تقل شئنا فإن الحظ شاء”، فقد أصر السنباطي على أن تغني بأعلى درجات الصوت، وتكرره ثلاث مرات”، لكن الست اعترضت، ليس كما قال البعض بأنها خافت من عدم القدرة بسبب العمر، فهذا تفسير هزلي وسطحي، وينفيه أنها غنتها عشرات المرات دون هنة واحدة، إنما كان الخلاف أن الست رأت أن الكلمات تعبر عن حالة إنكسار وحزن، لا ينبغي أن تكون بمقام الهزام وبأعلى درجات الصوت، لكن السنباطي أصر، واختلفا وتخاصما لسنوات، حتى غنتها الست كما أراد السنباطي، فكانت التتويج لأغنية استحقت أن تبقى على صدارة الغناء العربي لعقود وربما لقرون، وكان أول ما فعلته الست أن ذهبت إلى اسنباطي، فرحة بالإستقبال الحافل للأغنية، وتعتذر ثانية للسنباطي، وتقول “كنت على حق”، لقد غنيتها كما أردت، فكانت بهذا البهاء.
يمكن أن يطول الحديث لصفحات إذا توقفنا عند كل مقطع وكيف ظهر بهذا الكمال النادر بصوت لا يتكرر في حساسيته وقدراته للست التي تمتعت بهذا التفرد، فاستحقت مكانتها الشامخة، التي لا يمكن أن يمسها أحد.









