كتاب وشعراء

مقال أخلاقي، فكري الضمير الذي لا نحتمله… زكريا شيخ أحمد

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

لماذا نحتاج المبدع ليكون صوتنا الأخلاقي، ثم نخشى صوته حين يتكلم؟

قرأتُ مقالاً للصديق للأستاذ Ahmad Ismail Ismail
يقدم فيه رؤيةً نقديةً قويةً لعلاقة المجتمع
و السلطة بالمبدع و قد برع في إبراز مأساة متكررة في التاريخ:
اضطهاد المبدعين في حياتهم ثم تمجيدهم
بعد موتهم.
كما أنه في مقاله لفت النظر إلى مسؤولية المجتمع لا السلطة فقط و هذه نقطة مهمة؛
إذ لا يمكن اختزال القمع دائماً في المستبد السياسي وحده.
و انتهى إلى إثارة سؤالٍ أخلاقيٍّ عميق:
كيف نريد من المبدع أن يكون ضمير المجتمع، بينما نعاقبه كلما تكلّم؟

هنا أحاول مقاربة الإجابة عن هذا السؤال الأخلاقي و إن كان ذلك صعباً و غير مريح.

المبدع، في جوهر دوره، ليس مجرّد منتجٍ للجمال أو التسلية، بل هو كائنٌ قلِقٌ يرى ما لا يراه الآخرون و يشير إلى الشقوق التي يفضل المجتمع تجاهلها.
و من هنا تنبع المفارقة: فالمجتمع يحتاج إلى المبدع كي يوقظه، لكنه في الوقت نفسه يخشى ما قد يكشفه هذا الإيقاظ من عيوبٍ و خوفٍ
و زيفٍ مستقر.

أخلاقياً لا يحقّ لمجتمعٍ ما أن يطالب مبدعيه
بأن يكونوا ضميره الحيّ ما لم يكن مستعداً لاحتمال صدقهم. فالضمير ليس صوتاً مهادناً
و لا مرآةً مزيّنة؛ و إنما هو (أي الضمير ) بطبيعته جارحٌ و مزعج و مربك و مقلق. و ليس سقراط بعيداً عن هذا المشهد؛ فقد حاكمه مجتمعه
لا لأنه كذب و لكن لأنه ألحّ في السؤال و أربك المسلّمات و رفض أن يكون الضمير صامتاً.
لم تُنفّذ العقوبة باسم الطغيان الصريح، بل
باسم حماية الأخلاق ذاتها و كأن المجتمع يومها اختار راحته الفكرية على حساب الحقيقة التي كان يدّعي الدفاع عنها.

و عندما يُعاقَب المبدع على قول ما يراه حقاً
فإن العقوبة لا تطاله وحده و إنما تطال فكرة الأخلاق ذاتها، في تلك اللحظة، لا يكون المجتمع قد أخطأ التقدير فقط و إنما يكون قد فضّل الطمأنينة على الحقيقة و السكون على المساءلة.

غالباً ما يُطلب من المبدع أن يكون شجاعاً ،
لكن قلّما يُسأل المجتمع إن كان شجاعاً بما يكفي لسماع ما يُقال. فالشجاعة هنا ليست فردية فقط، بل جماعية أيضاً.
مجتمعٌ يخنق الاختلاف و يسخر من الأسئلة
و يشهّر بالمخالف، لا يمكنه الادعاء بأنه مظلوم حين يصمت مبدعوه أو يهاجرون أو ينكسرون.

و قد تكرّر هذا المشهد في التاريخ غير مرة؛
فالحلاج الذي قال ما رآه حقاً دون مواربة،
لم يُقتل لأنه دعا إلى الفوضى، بل لأنه كسر حدود المألوف واجه المجتمع بصدقٍ لم يكن مستعداً لاحتماله.
لم يكن الخوف من كلماته وحدها و إنما من أثرها و من قدرتها على زعزعة يقينٍ استقر طويلاً دون مساءلة.

المفارقة الأكثر قسوة تظهر لاحقاً ، حين يعود المجتمع ذاته لتمجيد من حاربهم بعد موتهم. هذا التمجيد المتأخر لا يحمل في الغالب اعترافاً بالذنب و إنما استخداماً رمزياً للمبدع بعد
أن زال خطره. فالميّت لا يفضح و لا يطالب و لا يربك السائد.
و هنا يتحول المبدع من صوتٍ حيّ إلى أيقونةٍ صامتة تُعلّق على الجدران بعد أن كان وجودها حيّاً غير محتمل.

و مع ذلك لا يمكن تبرئة المشهد الثقافي بالكامل. فوجود متطفّلين و مزيّفين و متاجرين بالثقافة حقيقة لا يمكن إنكارها. غير أن الخطورة لا تكمن في وجود هؤلاء بحدّ ذاته و إنما في الطريقة
التي يُستثمرون بها.
فكثيراً ما يتم استخدام حضورهم كذريعة جاهزة لقمع الكلمة الصادقة، حيث يُخلَط عمداً بين السؤال الجادّ و الادّعاء الفارغ ليصبح إسكات الجميع فعلاً وقائياً لا اعتداءً أخلاقياً.

الأخطر من وجود المزيفين هو قبول المجتمع بهذا الخلط المريح؛ لأنه يعفيه من عناء التمييز
و يمنحه مبرراً أخلاقياً زائفاً لرفض كل ما يربكه
أو يهدد سكونه الفكري. و هكذا لا يُقصى المبدع الحقيقي لأنه مخطئ دائماً، بل لأنه تتم محاسبته بمعايير وُضعت أصلاً لمواجهة الزيف، ثم استخدمت لاحقاً للهرب من الحقيقة.

الإجابة الأخلاقية، و إن كانت غير مريحة، واضحة في جوهرها:
إمّا أن نقبل بالمبدع ضميراً حيّاً بكل ما يحمله
من إزعاج و قلق و كشف،
و إمّا أن نعترف بأننا لا نريده إلا زينةً ثقافيةً لا تفضح و لا تجرح.

أما الجمع بين الأمرين أي المطالبة بالضمير
و معاقبته فليس موقفاً أخلاقياً ، بل تناقضٌ
يدفع ثمنه الإنسان… قبل الفكرة
و التاريخ شاهد لا ينسى لأن المجتمعات
التي تخاف ضمائرها، لا تصنع تاريخاً…
بل تكرّره.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock