تاريخ العرب

قصة العمالقة الأربعة عشر الذين وفدوا على كسرى

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

يروي أهل الأخبار أنَّ أربعة عشر رجلًا توجَّهوا وفدًا إلى كسرى كانوا جميعًا ذوي هيئةٍ مهيبة وأجسامٍ ضخمة، قيل إن الرجل فيهم كان طوله يزيد عن المترين ، يتقدَّمهم الصحابي الجليل النعمان بن مُقَرِّن رضي الله عنه. وقد اختارهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بأمرٍ من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ليدعوا كسرى إلى الإسلام قبل وقعة القادسية.
ولمَّا علم الفرس بمقدَمهم، خرج الناس أفواجًا ليتأمَّلوا هؤلاء العرب الذين كانوا يظنُّونهم بدوا أعرابًا جفاة لا شأن لهم . وتقول إحدى النساء الفارسيات ممَّن أسلمن بعد ذلك:
«فوقفنا ننظر إليهم، والله ما رأينا أربعة عشر مثلهم قط، ليعادِلُون ألفًا، وإن خيولهم لتنْفُث غضبًا وتضرب في الأرض، فوقعت في قلوبنا المهابة، وتشاءمنا.»
دخل الوفد المسلم إلى إيوان كسرى ، كان إيوانُ كِسرى قطعةً من سلطانٍ مُجسَّد، قامت قاعته العظمى على قوسٍ هائلٍ واحد، لا تسنده أعمدة، أريد له البنّاء الفارسي أن يكون قائمًا بذاته، كما تقوم الدولةُ بسيفها وهيبتها. يدخل الداخل فيُظلّه فراغٌ شاهق، يرفع فيه رأسه طويلًا قبل أن يبلغ بعينه نهاية القوس، وتحيط به جدرانٌ مكسوّة بالجصّ الملوَّن، رُسمت عليها مشاهد ملوك فارس السابقين وغزواتهم وصيدهم، لتحدّث الزائر قبل أن يُخاطبه الملك. وكانت أرض الإيوان مفروشةً بالبُسط الفارسية العظيمة، منسوجة بالحرير والذهب، حتى ليشعر الداخل أنّه يطأ تاريخًا لا بساطًا.
وفي صدر الإيوان ارتفع عرش كسرى حيث يجلس يزدجرد ، موضوعًا على سريرٍ من الخشب النفيس المذهَّب، تحته درجاتٌ ترفعه في هيبة ، وحوله وسائد موشَّاة بالجواهر اليتيمة ، تُقصد بها لتأكيد الفارق بين من يجلس ومن يقف. وقد تعمَّد كسرى أن يجعل بينه وبين من يفد عليه مسافةً محسوبة، فلا يقترب أحدٌ إلا مقدارًا معلومًا، لتبقى الهيبة قائمة، ويظل العرش بعيدًا، كما يُراد للملك أن يكون بعيدًا عن المنال.
وأمّا تاج كسرى ، فقد كان أشهر من العرش نفسه، لما عُرف عنه من العِظَم والثقل. لم يكن تاجًا يُوضَع على الرأس، بل صُنع من الذهب الخالص، ورُصِّع بالياقوت والزمرد واللؤلؤ، حتى عجزت الرقاب عن حمله. فكان يُعلَّق بسلسلةٍ من ذهب في سقف الإيوان، ويجلس كسرى تحته، فيبدو للناظر كأنه متوَّج، وهو في الحقيقة يعيش تحت ثقل التاج لا ينفصل عنه. وكان هذا المشهد وحده كافيًا ليُوقِع في القلوب رهبةً، إذ يرى الداخل سلطانًا مُحاطًا بزينةٍ لا تُحتمل إلا بمعونة الدولة كلّها.
وحول العرش وقف حرس كسرى الامبراطوري ، صفوفًا صامتةً كأنها جزءٌ من الجدران. مدجَّجون بالسلاح، متأنقون في لباسهم كانهم ملوك ، لكل واحدٍ موضعه الذي لا يتجاوزه، ولا يتحرَّك إلا بإشارة. لم يكن ضجيجهم هو ما يُخيف، بل سكونهم؛ صمتٌ منظمٌ يُشعرك بأنك في حضرة نظامٍ لا يختلّ، وسلطانٍ لا يُناقَش.
ولم تكن هذه العظمة زينةً خاوية، بل سياسةً مقصودة. فالإيوان، والعرش، والتاج، والحرس، والمسافات، كلها عناصر في مشهدٍ واحد، أُريد له أن يكسر نفس الداخل قبل أن ينطق، وأن يُذكّره بأنه يقف أمام دولةٍ صنعت الهيبة صناعةً، وورثت السلطان قرنًا بعد قرن .
وكانت تحيط بكسرى حاشيتُه وحكماءُ الفرس في نصف دائرة، وأقربهم إليه على مسافة ثلاثة أمتار، غير أنَّ المسلمين دخلوا غير هيَّابين ولا آبهين بهذه الزينة والفخامة، حتى اقتربوا منه دون أن يخطر ذلك ببالهم أو يصيبهم أدنى عقدةِ نقص، ورؤوسُهم مرفوعة، يتجلَّلهم الاستعلاءُ بالإيمان.
وخلال الحوار و المفاوضات قال المغيرة بن زرارة رضي الله عنه لكسرى :
«فاختر: إن شئتَ الجزيةَ عن يدٍ وأنت صاغر، وإن شئتَ فالسيف، أو تُسلِم فتنجي نفسك.»
وكان هذا منتهى العزَّة والقوة في الخطاب. ولمَّا ترجم المترجم الكلام، توقَّف عند كلمة «صاغر» ، فلم يعرف لها ترجمة، فنقلها كما هي. فسأل يزدجرد: صاغر ؟؟ ما معنى صاغر؟
فقال له المغيرة بن زرارة:
> «أن تُعطي الجزية فنرفضها، ثم تُعطيها فنرفضها، ثم ترجونا أن نقبلها، فنقبلها منك.»
عندها غضب يزدجرد و ثار ، ونهض واقفًا وقال:
— أتستقبلني أنا بمثل هذا الكلام؟
فقال المغيرة:
— إنك أنت الذي كلَّمتني، ولو كلَّمني غيرك لاستقبلته بمثله.
فازداد كسرى غضبًا، ونادى حاشيته ليدنوا منه، وكأنَّه يهمُّ بأمرٍ شديد.
ثم قال للمسلمين:
— من أشرفكم؟
فتقدَّم عاصم بن عمرو التميمي رضي الله عنه، وقد ظنَّ أن القتل مصيره ، طالبا للشهادة و الجنة ، وقال بثبات:
— أنا أشرفهم.
فأمر يزدجرد بوِقْرٍ من تراب، فقال: ضعوه على رأسه. فوُضع التراب على رأس عاصم، ثم أعاد عليه السؤال:
— أأنت أشرفهم؟
فقال:
— نعم، أنا أشرفهم.
فقال يزدجرد:
«لولا أن الرسل لا تُقتَل لقتلتكم، اذهبوا فلا شيء لكم عندي.»
خرج الوفد مسرعين من إيوان كسرى إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهم فرحون مستبشرون، وعلى رأس عاصم بن عمرو التراب، يضحك ويقول لأصحابه:
> «أعطونا أرض فارس، فملَّكنا الله أرضهم.»
وبعد ذلك قدم رستم ، ولم يكن حاضرًا هذا اللقاء، فدخل على يزدجرد وسأله:
— ماذا رأيت؟
فقال:
— والله رأيت قومًا ما رأيت مثلهم قط، ولم أكن أعلم أن في العرب مثل هؤلاء، غير أنَّ أشرفهم كان أحمقهم.
قال رستم:
— ولمَ؟
قال:
— سألته: من أشرفكم؟ حتى أحمله وِقْرًا من تراب، فقال: أنا، وكان يستطيع أن يتَّقيني، وأنا لا أعلم.
فقال رستم:
«بل هو أعقلهم.»
> قال يزدجرد:
> — ولمَ؟
> قال:
> «لأنك أعطيته أرض فارس… يا للشؤم!»
فلما وقعت هذه الكلمة في قلب يزدجرد، أرسل فرقةً تلحق بالمسلمين لتستردَّ منهم وِقْرَ التراب، لكن الوفد كان قد بلغ معسكره، فأفلت منهم.
فانظر كيف يُلقي الله الرعب في قلوب أهل فارس، وكيف تكون العزَّة لمن حمل راية الحق.
رضي الله عنهم وأرضاهم…
📚 المصادر
الطبري – تاريخ الرسل والملوك، أحداث معركة القادسية وما قبلها.
ابن كثير – البداية والنهاية، باب فتح العراق وفارس.
ابن الأثير – الكامل في التاريخ.
أبو عبيدة معمر بن المثنى – كتاب فتوح البلدان (روايات الفتوح الأولى).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock