رؤي ومقالات

د. فيروز الولي تكتب :انسحابٌ عاجل… أم ترتيبٌ لما بعد البيان؟ قراءة تحليلية ساخرة في بيانٍ غير معتاد، وتداعياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

لم يكن بيان السعودية هذه المرة كغيره من بيانات “ضبط النفس” التي اعتدنا أن تمرّ مرور الكرام، كأنها نشرة طقس لا تمطر ولا تُمطر. هذه المرة، اللغة كانت أكثر حدّة، وأكثر مباشرة، وأكثر إيحاءً بأن ما بعد البيان ليس كما قبله.
“انسحاب عاجل”… عبارة ثقيلة، لا تُكتب عبثًا في البيانات الدبلوماسية، ولا تُقال إلا حين تكون ساعة الرمل قد انقلبت.
أولًا: القراءة السياسية – حين يتغيّر القاموس
سياسيًا، البيان يوحي بأن الصبر الاستراتيجي قد شارف على نهايته.
السعودية لا تتحدث هنا مع “مكوّن حليف”، بل مع مشكلة يجب احتواؤها.
الرسالة واضحة:
حضرموت والمهرة ليستا ساحتين مفتوحتين للتجريب السياسي ولا للتمدد العسكري خارج التوافق.
والأخطر أن البيان يضع الانتقالي في موضع الطرف المعرقل، لا الطرف الشريك. وهذه نقلة نوعية في الخطاب، تفتح الباب أمام إعادة توزيع الأدوار داخل “الشرعية” نفسها، وربما تحريك قوات… لكن ليس نحو صنعاء ولا الحديدة، بل نحو مناطق النفط والبحر.
ثانيًا: البعد العسكري – البندقية حين تُخطئ الاتجاه
عسكريًا، ما يحدث يختصر مأساة اليمن في جملة واحدة:
كل البنادق ذكية في الاتجاه الخطأ.
بدل أن تتجه الجبهات نحو المشروع الانقلابي الحوثي، يتم تكديس القوات حول حضرموت والمهرة، حيث النفط والموانئ والمعابر.
وهنا السؤال الساخر المبكي:
هل أصبحت صنعاء بعيدة جغرافيًا أم سياسيًا؟
أم أن استعادة الدولة تمرّ أولًا عبر مصافي تكرير عشوائية وتهريب نفط “يُرضي الجميع” ويُغضب المواطن؟
ثالثًا: الاقتصاد والمال – حين يصبح النفط لعنة
اقتصاديًا وماليًا، حضرموت والمهرة ليستا مجرد جغرافيا، بل شريان حياة لبلد يحتضر.
لكن ما يحدث هو تحويل هذا الشريان إلى سوق سوداء موسّعة:
تهريب نفط
مصافٍ بدائية
جبايات
اقتصاد ظلّ يُغني قلة، ويُفقر شعبًا بأكمله
وهنا تكمن المفارقة الكوميدية السوداء:
الدولة تبحث عن رواتب،
والتحالف يبحث عن استقرار،
والمواطن يبحث عن رغيف…
بينما النفط يبحث فقط عن الطريق الأسهل للتهريب.
رابعًا: البعد الاجتماعي والثقافي – تمزيق النسيج باسم “القضية”
اجتماعيًا، هذا التصعيد لا ينتج “دولة جنوبية” ولا “دولة يمنية”، بل ينتج كراهية مؤجلة ونزاعات مجتمعية طويلة الأمد.
حضرموت والمهرة مجتمعات مسالمة، لا تحب الصراخ ولا الشعارات، لكن الضغط يولّد انفجارًا صامتًا.
ثقافيًا، يتم استبدال مفهوم الدولة بمفهوم “الغلبة”،
ومفهوم المواطنة بمفهوم “من يسيطر على المعسكر”.
خامسًا: الدبلوماسية – حين يلمّح البيان أكثر مما يصرّح
دبلوماسيًا، البيان السعودي لا يهدد، لكنه لا يطمئن.
هو بيان يفتح كل الاحتمالات، ويترك الرسالة بين السطور:
“إن لم تنسحبوا… فهناك من سينسحب بكم.”
وهذا أخطر أنواع الرسائل، لأنه يترك التنفيذ للمرحلة التالية، دون ضجيج.
سادسًا: الكوميديا السوداء – مشهد يمني بامتياز
في المشهد اليمني الحالي:
كل طرف يعلن “الحرص على الاستقرار”
وكل طرف يتحرك عسكريًا
وكل طرف يتهم الآخر بالتصعيد
والنتيجة؟
الاستقرار هو الضحية الوحيدة التي لا متحدث رسمي لها.
الرؤية: كيف نمنع هذا السقوط؟
تحييد حضرموت والمهرة تحييدًا كاملًا، سياسيًا وعسكريًا، باعتبارهما مناطق ثروة لا ساحات صراع.
إدارة الموارد النفطية عبر آلية وطنية شفافة بإشراف دولي مؤقت، تُوجّه عائداتها للرواتب والخدمات، لا للفصائل.
إعادة تعريف العدو الحقيقي في الخطاب السياسي والعسكري، وإيقاف سياسة “الخصم الأقرب أولًا”.
حوار جنوبي–جنوبي حقيقي بلا سلاح، وبلا رعاية انتقائية، يعالج جذور القضية لا استثمارها.
وقف عسكرة الاقتصاد وتجريم التهريب والمصافي العشوائية باعتبارها جريمة وطنية لا “مكسبًا مرحليًا”.
خاتمة
البيان السعودي ليس مجرد نص دبلوماسي، بل جرس إنذار مبكر.
إما أن يُفهم بعقل الدولة،
أو يُقرأ بعقل الغنيمة…
وحينها، لن تكون حضرموت والمهرة آخر محطات النزاع، بل بدايته الجديدة.
والسؤال الذي يبقى معلقًا:
هل نتعلم من البيانات قبل أن تتحول إلى بيانات عسكرية؟
أم ننتظر، كعادتنا، حتى يدفع المواطن الفاتورة كاملة… ثم نبحث عن بيانٍ آخر؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock