رؤي ومقالات

د. فيروز الولي تكتب :لماذا اقترح العقلاء الكونفدرالية؟ قراءة تحليلية ساخرة في آخر حلول العقل قبل انهيار الوجدان

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

مقدمة: ما هي الكونفدرالية؟ ولماذا تُطرح الآن؟
الكونفدرالية ليست اختراعًا شيطانيًا، ولا مؤامرة لتقطيع الأوطان كما يصرخ تجار الشعارات، بل صيغة سياسية معروفة تقوم على اتحاد طوعي بين كيانين أو أكثر، يحتفظ كل طرف فيه بصلاحياته الواسعة في الإدارة والموارد، مع سلطة اتحادية محدودة لإدارة الشؤون السيادية المشتركة: السياسة الخارجية، الدفاع، العملة، وبعض الملفات الاستراتيجية.
بمعنى أبسط: هي محاولة لتنظيم الشراكة بدل فرضها، وإدارة الاختلاف بدل إنكاره، وبناء الدولة من الأرض إلى الأعلى لا من الخطب إلى المقابر.
في الحالة اليمنية، لم تُطرح الكونفدرالية حبًا في التفكيك، بل هروبًا من الانفجار؛ لم تأتِ لأنها الحل المثالي، بل لأنها أقل الحلول سوءًا في بلدٍ استُهلكت فيه كل الشعارات، واهترأت كل اللافتات، ولم يتبقَّ إلا الناس ووجدانهم.
في هذا السياق، خرج بعض المثقفين والسياسيين
المحترمين – أولئك الذين لم تبتلعهم المليشيا ولا موائد السفارات – ليقترحوها لا كغنيمة سياسية، بل كـ”طوق نجاة” اجتماعي قبل أن يتحول اليمني إلى مشروع كراهية متنقل.
في بلدٍ استُهلكت فيه كل الشعارات، واهترأت كل اللافتات، ولم يتبقَّ إلا الناس ووجدانهم، خرج بعض المثقفين والسياسيين المحترمين – أولئك الذين لم تبتلعهم المليشيا ولا موائد السفارات – ليقترحوا الكونفدرالية. لا حبًا في المصطلحات المستوردة، ولا كرهًا للوحدة أو العناوين الكبرى، بل خوفًا على الإنسان اليمني نفسه: ذاكرته، كرامته، وقدرته على البقاء دون أن يتحول إلى مشروع كراهية متنقل.
أولًا: البعد الاجتماعي – إنقاذ ما تبقى من الوجدان
الكونفدرالية لم تُطرح كترفٍ فكري، بل كـ”إسعاف أولي” لمجتمع مُنهك. المجتمع اليمني اليوم لا ينقصه السلاح ولا الخطابات، بل ينقصه الاطمئنان. الناس لم تعد تسأل: من يحكم؟ بل: هل سننجو؟ هل سيتعلم أولادنا؟ هل سنُقتل بسبب لهجتنا أو منطقتنا؟
الكونفدرالية هنا محاولة لخفض منسوب الاحتقان، لا لرفعه؛ لإدارة الاختلاف بدل تحويله إلى اقتتال، ولإعادة الاعتبار للعيش المشترك دون إجبار، وللوحدة دون عصا.
ثانيًا: البعد الثقافي – حين تفشل الأسطورة وتنجح الواقعية
ثقافيًا، نحن أسرى أساطير سياسية: وحدة مقدسة لا تُمس، أو انفصال طاهر لا يخطئ. وبين هذا وذاك ضاعت الحقيقة. الكونفدرالية كسرٌ ناعم لهذه الثنائيات القاتلة، واعتراف بأن الثقافة السياسية اليمنية تحتاج مرحلة علاج، لا خطبة حماسية.
هي صيغة تقول: دعونا نتعلم إدارة الاختلاف قبل أن نتغنى به، ونبني الثقة قبل أن نطالب بالولاء.
ثالثًا: البعد السياسي – مجلس رئاسي بدل مجلس صراخ
سياسيًا، طرح الكونفدرالية جاء بعد فشل الدولة المركزية، لا بسبب نجاحها. دولة ابتلعت العاصمة، ثم ابتلعت الناس، ثم انهارت فوق الجميع.
مجلس رئاسة من الطرفين، تداول على الرئاسة، عاصمة جديدة لا تحمل عقد الماضي… هذه ليست بدعًا، بل محاولة لفك الاشتباك بين السلطة والرمزية، بين الجغرافيا والشرعية، وبين الدولة والغنيمة.
رابعًا: البعد الاقتصادي – حين تصبح الدولة مشروع استثمار فاشل
اقتصاديًا، المركزية لم تنتج إلا فسادًا مركزيًا. الثروة تُجمع في مكان، والجوع يُوزع بعدالة على الجميع.
الكونفدرالية تفتح الباب لإدارة محلية للموارد، للمحاسبة القريبة، ولتحويل الاقتصاد من اقتصاد حرب ومرتبات وهمية، إلى اقتصاد إنتاج ومسؤولية. باختصار: أن يعرف المواطن من سرقه، بدل أن يلعن “الدولة” ككائن غامض.
خامسًا: البعد العسكري والأمني – سلاح واحد أم فوضى بعدة أعلام
عسكريًا، الواقع يقول: لا جيش وطني واحد، بل جيوش، ومليشيات، وأحزمة، وألوية بأسماء قبلية أو جغرافية أو ممولين.
الكونفدرالية لا تشرعن الفوضى، بل تحاول إدارتها مرحليًا: إعادة هيكلة أمنية تدريجية، تحديد مهام، دمج مهني، وإخراج السلاح من السياسة. نعم، طريق طويل، لكنه أقل كلفة من حرب بلا نهاية.
سادسًا: البعد الدبلوماسي – دولة مفهومة للعالم
دوليًا، العالم لا يفهم صراخنا، بل يفهم الخرائط الواضحة. الكونفدرالية تقدم صيغة قابلة للتسويق السياسي والدبلوماسي: دولة واحدة بهياكل متعددة، اتفاق داخلي بدل صراع مفتوح، واستقرار نسبي بدل فوضى دائمة.
العالم لا يحبنا، لكنه يحب الوضوح.
سابعًا: البعد الإعلامي – من التحريض إلى التهدئة
إعلاميًا، الكونفدرالية فرصة لخفض خطاب التخوين. بدل إعلام يشتم نصف الشعب صباحًا، ويطالب بوحدته مساءً.
إعلام يعترف بالاختلاف، لا يصنعه. يداوي الجراح، لا يعيد فتحها كل نشرة أخبار.
ثامنًا: البعد المالي واللوجستي – حين تُحسب الأمور بالعقل
إداريًا وماليًا، الدولة المركزية أثبتت أنها عبء لوجستي. كل شيء متكدس، معطل، فاسد.
الكونفدرالية تعني توزيع الصلاحيات، تقليل الهدر، وتبسيط الإدارة. أن تصل الخدمة للناس، لا أن تضيع في الطريق بين وزارة ووزارة.
سخرية الواقع: لماذا يغضب تجار الشعارات؟
لأن الكونفدرالية تُسقط تجارتهم: لا بطل تاريخي، لا معركة مقدسة، لا جمهور يُساق بالعاطفة. فقط عقد سياسي واضح، ومحاسبة، ومسؤولية.
وهذا مخيف لمن يعيشون على الفوضى.
الرؤية: حياة سياسية أفضل (إن أردنا بصدق)
1. مرحلة انتقالية كونفدرالية محددة بزمن.
2. مجلس رئاسة متوازن وتداول حقيقي.
3. عاصمة إدارية جديدة بلا ذاكرة صراعية.
4. إعلام ميثاقه السلم لا التحريض.
5. اقتصاد محلي خاضع للمساءلة.
6. إعادة بناء الوجدان قبل إعادة رسم الخرائط.
خاتمة: بين قداسة الشعارات وكرامة الإنسان
الكونفدرالية ليست حلًا سحريًا، ولا وعدًا بالجنة السياسية، لكنها اعتراف شجاع بأن ما جُرِّب فشل، وأن الإصرار على الفشل باسم الثوابت جريمة أخلاقية قبل أن تكون سياسية.
هي صيغة تقول بوضوح: نريد دولة تعيش، لا شعارًا يُدفن معه الناس. نريد عقدًا يحمي الوجدان قبل الحدود، والإنسان قبل الخريطة، والاستقرار قبل المزايدات.
أما أولئك الذين يخافون من الكونفدرالية، فغالبًا لا يخافون على الوطن… بل على امتيازاتهم، وعلى سوق الفوضى الذي يدرّ عليهم أرباحًا من الدم والضجيج.
في النهاية، الدول لا تُقاس بطول شعاراتها، بل بقدرتها على حماية مواطنيها. وإذا كان الخيار بين وحدة بالقوة تُنتج حربًا دائمة، أو شراكة رضائية تُنتج سلامًا قابلًا للحياة، فإن العقل – لا العاطفة – هو من اختار الكونفدرالية.
لأن الحفاظ على وجدان الناس… هو آخر ما تبقى لنا من وطن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock