حمزه الحسن يكتب :جماليات السياب

” السلطة لا تتموضع في مكان ما، بل هي عبارة عن نظام من العلاقات المتشابكة. *بيير بورديو، مؤلف: الرمز والسلطة.
نحن في زمن عراقي مطلوب القضاء على كل رمز نظيف بصرف النظر عن هذا الرمز، سواء كان هذا الرمز زعيما او مثقفا او موظفا،
لأن الرمز النظيف يفضح الصورة العامة البشعة،
ولكي يندمج الجميع في نسيج البشاعة ولكي تصبح ظاهرة عامة.
من سوء حظ العراقي منذ القرن الماضي الى اليوم أن وجد نفسه مرات في لحظة منعطف، بين واقع قديم لا يموت وواقع جديد لا يولد أو ولد ميتاً، وفي الفاصلة بينهما ولدت عاهات مرضية ونفسية وتشوهات كثيرة كما لو اننا في زمن غرامشي عندما تحدث عن أعراض لحظة المنعطف.
العنف لا تمارسه السلطة فحسب كما نختزل نحن السلطة بالحكومة بل العنف الناعم تمارسه وسائل الاعلام والمدارس والافراد من خلال برامج الاكراه والتكوينات الاجتماعية من خلال فرض صورة وحيدة للحياة في نظام قوالب ويمارسه أفراد ضد بعضهم،
لان السلطة شبكة علاقات متداخلة ومتشعبة والنظام السياسي جزء وليس كل السلطة ولن تتغير هذه إلا اذا تغيرت السلطة الاجتماعية وليس العكس كما في الفكر الانقلابي.
بعد محاولات محو الارض، والسطو على الثروة، وخلق التاريخ المشوه،
وبناء ثقافة مشوهة من نخبة منتقاة قبل وبعد الاحتلال،
بعد بناء سياسي مبرمج على التبعية وعدد مراكز القوى، بعد التنكيل والقتل ونقص الخدمات، حان وقت قتل الرموز في التاريخ والثقافة وفي السياسة وفي المجتمع.
تاريخ الاعتداء على الشاعر السياب ليس جديداً بل عانى منه حياً وميتاً. السياب عاش ظروفاً لا تحتمل من المرض والعوز وحملات التشهير وحتى الاعتداء الجسدي من “الرفاق” وحسب محاضرة للشاعرة لميعة عباس عمارة في” ديوان الكوفة” في لندن عام 1996 قالت بالحرف:
” لقد أوصى أحد قادة الحزب الشيوعي الرفاق: على كل من يصادف بدر شاكر السياب بالطريق أو أي مكان أن يهينه ويبصق عليه”.
فقط لان السياب اختلف مع” الرفاق”،
وهذه ” التوجيهات” صدرت بحق أعداد كبيرة من المثقفين ومن السياسيين وحتى من بين صفوفهم من مكتب خاص بالتشهير السياسي والاخلاقي وصل الى لغة يخجل منها حثالات الحانات الرخيصة وكانت النتيجة خروجاً جماعياً صامتا من جميع كتاب وشعراء الحزب منه ولم يجرؤ واحد منهم كما فعل السياب على تدوين تجربته لانه يعرف ان هؤلاء يشرّوه على حبال غسيل وسخة لذلك آثر الصمت الجبان كما فضل من قبل تسويغ خطابات الحزب الانشائية الباهتة التي كلفت شباباً وشابات أرواحهم بلا سر ثورة.
نشرت ” مذكرات ” لميعة عباس عمارة في جريدة الشرق الأوسط في تاريخ 25/09/1996 في العدد 6511، في حلقات وذكرت هذا الحدث في الحلقة الثامنة لكن كل هؤلاء اختفوا وطواهم النسيان وظل السياب علامة مضيئة في تاريخ الادب العربي عندما غير قواعد الشعر وقواعد التخيل أيضاً وتجرأ على التاريخ الشعري وغيره لذلك الوصف السوقي له من قبل ارستقراطية متخلفة بـــــــــــــ” الشخص الضعيف” لأن السياب لم يكن شلايتياً أو شقاوة لكي يوصف بقوة الشخصية ، وهذه الشرائح التي تعاني من وعي جريح او معطوب لها تفسيرات خاصة للشجاعة والضعف والجمال والقبح مع ان هذه الامور لا تطرح في الادب العالمي بل التركيز على الانجاز الأدبي.
الشاعرة عمارة زميلة وصديقة السياب في دار المعلمين العالية التي صارت كلية التربية. كتب الشاعر محمد الماغوط ــــــــــــ في كتابه سأخون وطني ــــــــــــ الذي رافق السياب في بيروت وهو في قالب الجبس الطبي بطلب من الشاعر يوسف الخال كتمثال أبيض متنقل إنه صدم من الحملة على السياب من “رفاقه القدامى” بعد مقالات” كنت شيوعياً” في ان السياب عميل في المخابرات الامريكية ولا يمكن تخيل، يقول الماغوط، ان يجلس السياب في مقهى بنظارات سوداء ويتظاهر بقراءة جريدة وهو يراقب المارة.
شهادة الماغوط هي دفاع أدبي وإنساني وأخلاقي يؤكد على نقاء تجربة السياب وبراءته من تهم العمالة والتآمر. يرى الماغوط أن السياب لم يكن شخصاً غامضاً أو متخفياً، بل كان شخصاً مكشوفاً، حياته وألمه وشعره كله على الملأ، يتدفق بصدق حتى الموت بل وصفه بـــــــــــــــــ” شاعر متدفق كالنهر الذي يموت في قصائدة” اشارة الى قصائد السياب عن الساقية والنهر والغرق والموت والتضحية.
ربما لا يعرف الماغوط ان” رفاق السياب” لم يعرفوا من النظرية غير هذه العاهات حتى اليوم ولقنوا أجيالاً عليها ويمكن العودة الى كتاب السياب نفسه” كنت شيوعياً” عندما عرى وفضح هؤلاء بالأسماء .
لماذا تحول دفاع السياب عن نفسه الى عصاب نفسي عن طريق الكلمات في حين تم الصمت عن كل تلك الاساءات المخزية؟
تم اختزال الشاعر السياب في حالات غضبه على عدوان وظلم وتعسف تعرض له ونسيان ثورته الشعرية واللغوية بل جعل تفكيرنا مختلفا بتغيير اللغة وهو أمر لا يحدث في الآداب العالمية حيث صراعات الأدباء والفلاسفة والمثقفين مع المؤسسات والنظم والتقاليد والافكار لا حدود لها؟
هناك واحد من تقاليدنا العريقة التي ندفع ثمنها وهي مستمرة في أن الشخص الذي لا يتعكز على حزب او عشيرة او عائلة متنفذة قوية بالعدد أو المال أو النفود، يتحول الى” حائط واطئ” ولو كان عالماً وخبيراً وفيلسوفاً ، لأن الاحترام المبني على الخوف هو أقذر احترام بتعبير البير كامو، بل أبعد هو الشكل السري للجبان.
هكذا وجد السياب القادم الى بغداد من بيئة نقية نظيفة واضحة من غابات السيبة وطيورها وشباك وفيقة وعلاقاتها الاجتماعية الواضحة وبشرها الأنقياء من صيادي أسماك و” صواعيد نخل” واغاني الرعاة والقمر الفضي البازغ من خلف الاشجار، وجد نفسه في تقاطع نيران بين أبالسة في السياسة والثقافة وهو غير معتاد على مناخ مثل هذا ولا يعرف كيف يخوض معركته المركبة مع قوى بعشرات الرؤوس وعريقة في تاريخ التخوين ومعارك الصغار وهو ، بتعبير الماغوط، يحترق بنار الشعر. لم يكن يمتلك وسيلة للرد على هؤلاء سوى كتابة مقالات أو رسائل وتلك جريمته الوحيدة التي حولته في نظر الكاتب علي حسن الفواز الى شخص مريض وعصابي بسبب تلك المواقف لكنه لم يتكلم عن ظروفها كما لو ان السياب شخص خبل يهاجم المارة في الشوارع بلا سبب.
هل يستحق الانسان والمثقف والكاتب العراقي المعارات الغبية لانه لم يتحمل البشاعات والمذابح؟
من الغريب أن هذه المعارات الصبيانية تصدر من مثقفين ـــــــــــــ الوصف العراقي للمثقف لا يتطابق مع الحقيقة ــــــــــــــــ ومن كتّاب عن بعضهم كما نقرأ أحياناً في هذه المرحلة كما لو ان العراقي محروم حتى من ” الحق في المرض” وهو حق طبيعي وليس مكتسباً ونقل هؤلاء الحثالات هذه العاهات الى المنافي وفي دول ليبرالية متطرفة في الحقوق الفردية لكن كتاب بالات الملابس المستعملة ــــ اللنكات استدعوا اللغة الاولى لانهم لم يتجذروا في ثقافة جديدة ونقية وسوية ولم ينسوا لغة اولاد الشوارع العميقة الجذور التي تطغي على لغة الادب في الاختلاف لان لغة الادب لطش وللاستهلاك. يعني لا يحق لك ان تعيش ولا يحق لك ان تمرض. قانون لا يوجد في صفوف العصابات.
بل ذهب بعضهم للتنقيب في حياة الشاعر السياب وظهر انه يعاني من” العصاب النفسي” كما في مقال للكاتب علي حسن الفواز في جريدة القدس العربي بعنوان ” في الذكرى السادسة والاربعين لرحيله: ما الذي تبقى من السياب؟” بتاريخ 28 كانون الأول 2010 كما لو أن السياب متشرد يجب حرق أسلابه، والمقال مخصص لارضاء جهة حزبية ناصبت السياب العداء.
المفارقة يوم كان الفواز رئيس الاتحاد العام للادباء في العراق بعد الاحتلال تم تكريم أشهر نصاب عراقي من تاريخ اختراع الكتابة حتى اليوم ولمرتين ـــــــــــــ وهناك صورة يظهر فيها الفواز الى جانب النصاب في حفل التكريم ــــــــ كشاعر قادم من المنفى وهو تعلم القراءة في حملة محو الأمية ونسب لنفسه عضوية 3 أتحادات أدبية وهمية وحذرت منه صحف المعارضة السابقة على صفحاتها الأولى كشخص متخصص في التشهير بالكتاب الشرفاء ونمتلك وثائق دامغة عنه ونحن من ساعده في الوصول للنرويج بلا معرفة ــــــــــــــــ عن طريق حث منظمات نرويجية والمنظمة الدولية للدفاع عن الادباء المضطهدين فرع النرويج مكتب الأمم المتحدة في عمان لترحيله بناء على قصص تهديد مزيفة كان يرسلها لنا ومتوفرة بخط يده وظهر انه هارب لسرقة متجر في الشورجة عام 94 ــــــــ واستضفناه في المنزل لاسبوع بلا معرفة أيضا وكتب عنا بعدها وعن الأسرة ما يحتاج الى كمامات واقية من الجيف وهو نموذج الفواز المفضل وكما قال المثل العراقي:
“لا تدل السربوت على بيتك، ما يطلع في البلد صيتك”.
السياب عاش ظروفاً لا تحتمل من المرض والعوز وحملات التشهير وحتى الاعتداء الجسدي في بيروت من قبل الرفاق وهو شبح متنقل بتعبير الماغوط وصلت الى الضرب وسرقة نقود علاجه في حين كان يمشي كشبح أبيض ولا يفرق بين باب مفتوح أو فرع شارع بشهادة محمد الماغوط” كان يدخل البيوت هو يعتقد انها فرع شارع وأضطر لسحبه من ياقته” كتب الماغوط عن عميل المخابرات الأمريكية بشهادة الرفاق. أين هم اليوم وأين السياب؟
لم نسمع من فرنسي يقول لنا آن الأوان لتصفية معلقات فولتير وبودلير ورامبو وكامو ولو من روسي عن دوستوفسكي الغارق بالديون والقمار ولا من امريكي عن أرنست همنغواي ومشاجراته في الحانات ولا ألماني عن ماركس الشاب ومشاكله مع الشرطة بسبب مشاجرات شخصية. السياب ليس متشرداً مجهول النسب مات في خرابة حتى نطرح هذا السؤال” ماذا تبقى من السياب”؟ وهو السؤال الذي يُطرح عن هؤلاء الذين لم يقدموا للادب شيئاً سوى اللعب على الحبال. السؤال الحقيقي: ماذا تبقى وسيبقى من هؤلاء؟ ينجح الكذب في كل شيء عدا الأدب. الأيام تفضح.
السياب جميل في كل شيء، من الداخل ومن الخارج، بمعايير الجمال الحقيقية، جميل في ثورته في اللغة وفي التخيل وفي تحمل كل تلك المشاق وحيداً في مجتمع مؤسس على احترام القوة لا الموهبة واحترام النفوذ لا الكفاءة واحترام الصيت لا الانجاز.
نعم، عانى السياب وعاش في أوضاع غير محتملة وحيداً وهو وحده قرر شكل الرد عليها والمحن التي عاشها العراقي لا مثيل لها في التاريخ،
من حيث الشدة وطول الزمن والقسوة وتكفي تجربة واحدة منها لاجهاض قارات من الحوامل ، سواء اتفقنا او اختلفنا معه على الرد لكن ليس الى درجة المحو والعدوان والتخوين والالغاء.
من الطبيعي جداً أن يعاني من ذلك أي انسان كما يحدث للأشجار والطيور والأزهار عندما لا تجد بيئة مناسبة للحياة،
ومن غير الطبيعي ألا يعاني لأن المعاناة خاصية بشرية في حين الحيوان يتألم،
ومن لا يعاني من وحشية ظروف عشرات السنوات وحتى حياة كاملة إما وحش غير مدرك أو جلاد أو منتفع .
بفضل السياب صرنا أجمل في التخيل وفي الذوق وفي التحمل وفي مواجهة العواصف دون حاجة لشتم الريح بل رفع الأشرعة. كان على فراش المرض الاخير في المستشفى الكويتي يقرأ للشاعرة الانكليزية إديث سيتويل بلغتها كما لو يغني في قارب للنجاة. كان يقاوم الموت بالشعر فكيف كان ضعيف الشخصية؟
ماذا تبقى من جمال السياب؟
كل التاريخ النظيف القادم لان المزبلة لا تكتب تاريخ الشرفات المشرقة بالزهور والضوء والعطر.









