دَشْتاڤ: الهُوِيَّةُ تَحْتَ الضَّباب — سِجِلٌّ بِلا وُجوه (نُشوءُ الخَطَإ: سِيرَةُ الدِّيكِ الَّذي خانَ القَنّ)…..بقلم عمران علي (دوست) -سوريا

كانَ الدِّيكُ “نِيشان” يَعيشُ حياتَهُ كما تَعيشُ الأسماءُ الواضِحة: في القُنِّ، بينَ دَجاجاتٍ يَعرِفْنَ حدودَهُ ويَعرِفُ حدودَهُنَّ، حاكِماً صغيراً لوقتٍ قصير، سَيِّدَ الصَّباح، مُوزِّعَ الضَّوء، الّذي يَفتَتِحُ النَّهارَ بصِياحٍ لا يَشُكُّ في نفسِهِ.
ريشُهُ الأَحمرُ لم يَكُنْ تَرفاً لونيّاً، بل بيانَ سِيادة. أَحمرُ كدَمٍ يَعرِفُ طريقَهُ، تَختَرِقُهُ خُطوطٌ سُوداءُ عندَ أَطرافِ الجَناحَين، كأنَّ الحَريقَ مَرَّ بهِ قديماً وتَرَكَ توقيعَهُ.
جَسَدُهُ رَشيقٌ، مَشدودٌ، لا يَحمِلُ شَحمَ الدَّواجنِ الكَسولة، يَمشي بخُطوةٍ مَحسوبة، يُراقِبُ، يَختارُ، يَنتقي دَجاجتَهُ كما يَنتقي القائدُ جُندَهُ.
لم يَكُنْ نِيشان ديكاً عابراً في قُنٍّ عابِر.
كانَ كائناً يَعرِفُ موقعَهُ في السُّلَّمِ الصَّغيرِ للكون: أَعلى من الدَّجاجاتِ بدرجةِ الصَّوت، أَدنى من الإنسانِ بدرجةِ الصَّمت.
وكانَ هذا التَّرتيبُ كافياً ليَمنحَهُ وَهمَ الاكتمال. ريشُهُ الأَحمرُ لم يَكُنْ زِينة، بل إِعلانَ مِلكيّة. أَحمرُ قانٍ، لا يُشبهُ ألوانَ الحُبوبِ ولا غُبارَ الأَرض، أَحمرُ يُشبهُ الدَّمَ حينَ يَتذكَّرُ أنَّهُ كانَ حرارة.
وعندَ أَطرافِ الرِّيش، كانتْ خُطوطٌ سُوداءُ دقيقة، كأنَّ الحَريقَ جرَّبَ جَسَدَهُ مرَّةً ثمَّ تَراجَع، أو كأنَّ الظِّلَّ وقَّعَ باسمِهِ على جَناحَين لم يُخلَقا للطَّيران.
جَسَدُ نِيشان رَشيقٌ، مَشدودٌ، ليسَ فيهِ تَرهُّلُ الدَّواجنِ الّتي تُصادِقُ الكَسَل.
يَمشي بخُطىً مَحسوبة، يَرفَعُ رأسَهُ أَكثرَ ممّا يَلزَم، ويَخفِضُهُ فقط حينَ يَلتقِطُ حبَّة، وكأنَّهُ يُفاوِضُ الأَرضَ على لُقمة.
كانَ يَعرِفُ الدَّجاجاتِ واحدةً واحدة، لا بأسمائِهِنَّ، بل بدرجاتِ الطّاعةِ في عُيونِهِنَّ.
يَعرِفُ أَيَّتَهُنَّ تَتأخَّرُ عن النِّداء، وأَيَّتَهُنَّ تَخونُ الصَّفَّ، وأَيَّتَهُنَّ تَحتاجُ صِياحاً أَعلى لِتَتذكَّرَ مَن يَحكمُ الصَّباح.
الصَّباح…
كانَ نِيشان يَملِكُهُ. يَستيقِظُ قبلَ الضَّوءِ بقليل، يَنتظِرُ اللَّحظةَ الّتي يَتردَّدُ فيها النَّهار، ثمَّ يَشُقُّ الصَّمتَ بصِياحِهِ، كمن يُوقِّعُ اسمَهُ على صَفحةِ الهواء.
بعدَهُ فقط، كانتِ الأَشياءُ تَتَحرَّك: الإنسانُ، الدَّجاجاتُ، الظِّلُّ، وحتّى الوقت.
القُنُّ لم يَكُنْ سِجناً لهُ، بل وطناً صغيراً بلا أَسئلة.
حُدودُهُ من خَشَبٍ وأَسلاك، لكنَّهُ لم يَكُنْ يَفكِّرُ بها كحُدود، بل كإطارٍ للصُّورةِ الّتي يَعيشُ داخلَها.
لم يَعرِفِ البَرَّ، ولا سَمِعَ عن الفصائل، ولا خَطَرَ لهُ أنَّ العالَمَ أَوسَعُ من هذا المُستطيلِ المَليءِ بالقَشِّ والرِّيش.
لكنَّ الغَريزةَ لا تَحتَرِمُ الأُطر.
هي لا تُربّى.
لا تَتعلَّمُ النِّظام.
تَعيشُ كحيوانٍ آخَرَ داخلَ الحيوان.
حياتُهُ كانتْ مَحكومةً بنِظامٍ غيرِ مكتوب: حُبوبٌ في الصَّباح، ظِلٌّ في الظَّهيرة، وصِياحٌ عندَ كلِّ انتقالٍ في الضَّوء.
لم يَكُنْ يَعرِفُ البَرَّ، ولا يَعرِفُ الحُدود، ولا يَفكِّرُ في ما وراءَ السِّياج.
القُنُّ كانَ كونَهُ، والدَّجاجاتُ تاريخَهُ القصير.
لكنَّ الغَريزةَ لا تَعتَرِفُ بالأنظمةِ الصَّغيرة. هي لا تَحتاجُ إلى إِذن، ولا إلى سِجلّ.
في فَجرٍ مَشكوكٍ فيهِ، لم يَصحُ نِيشان للصِّياح.
الصَّمتُ تَمدَّدَ أَكثرَ من اللازِم، حتّى شَعَرَتِ الدَّجاجاتُ أنَّ شيئاً في الكونِ انزاحَ عن مكانِه.
دارتْ حولَ نفسِها، رَفَعَتْ رؤوسَها، وانتَظَرَتْ صوتاً لم يَأتِ.
ما حدَثَ لم يَكُنْ هُروباً، بلِ انجذاباً.
في ذلكَ الفَجرِ الّذي لم يَصحُ فيهِ نِيشان للصِّياح، انتَبَهَ القُنُّ إلى غيابِهِ قبلَ أن ينتَبِهَ إليهِ البَشر.
الدَّجاجاتُ دارتْ حولَ الفَراغ، والصَّمتُ تَمدَّدَ أطوَلَ من اللازِم، وكأنَّ النَّهارَ فَقَدَ مِفتاحَهُ. نِيشان لم يَمُتْ. لم يُسرَقْ. بلِ انحرَف.
رائحةٌ غَريبةٌ تَسلَّلتْ إلى القُنّ، رائحةٌ ليست طعاماً، وليست خوفاً، وليست ذكرى.
رائحةُ ماءٍ يَحمِلُ معهُ البَرَّ، ورائحةُ أُنثى لا تَعرِفُ القُنَّ ولا تَعتَرِفُ بهِ.
نِيشان شَمَّ الرائحةَ قبلَ أن يَفهَمَها.
الغَريزةُ أَسرَعُ من الفِكر، وأَكثرُ قَسوة.
في جَسَدِهِ، استيقَظَ شيءٌ قديم، شيءٌ لم يُدرَّسْ لهُ، ولم يُقمَعْ بما يَكفي.
رائحةٌ غيرُ مألوفةٍ اخترقَتْ هواءَ القُنّ، رائحةٌ لا تُشبهُ القَمحَ ولا التُّرابَ ولا ريشَ الدَّجاج.
كانتْ رائحةَ بَرٍّ مَكسور، ماءٍ مُشبَعٍ بالخَطر، أُنثى قادمةٍ من مسافةٍ لا تُقاسُ بالأمتار بل بالحُدود.
من جهةِ الشَّمال، من حيثُ تَعبُرُ البطَّةُ البَرِّيّةُ دونَ أن تَعرِفَ أَسماءَ الأَسلاك، كانتْ هي: جَسَدُها مَشدودٌ كما لو صُقِلَ بالهُروب، ريشُها لا يَلمَعُ بل يَختَزِنُ الضَّوء، عَيناها تَعرِفانِ الخَرائطَ دونَ أن تَراهما.
عَبَرَتِ السِّياجَ لا كاختراقٍ، بل كنِسيانٍ للسِّياج.
مَرَّتْ قربَ سِكَّةِ القِطار كأنَّ الحديدَ لا يَعنيها، وتَجاوَزَتْ حَقلَ الألغام كما لو أنَّ الأَرضَ نفسَها دلَّتها على خُطواتٍ آمِنة، لأنَّ البَرَّ أحياناً يَحمي أَبناءَهُ أَكثرَ ممّا تَحميهم القوانين.
نِيشان شَمَّها قبلَ أن يَراها. الغَريزةُ سَبَقَتِ البَصَر. الشَّيءُ الّذي لا يُكتَبُ في الدَّفاترِ استيقَظَ فيهِ.
تَبِعَ الرائحة.
تَرَكَ القُنَّ مفتوحاً خلفَهُ، تَرَكَ نِظامَهُ، وتَرَكَ اسمَهُ كما يُترَكُ مِعطَفٌ قديم.
خرجَ من القُنّ كما يَخرُجُ الاسمُ من فَمِهِ.
تَرَكَ خلفَهُ نِظامَهُ الصَّغير، وتَرَكَ صِياحَهُ مُعلَّقاً في الهواء. لم يَلتَفِتْ. لم يَعرِفْ أنَّهُ لن يَعودَ كما كان. من جهةِ الشَّمال، حيثُ لا تُقاسُ المسافةُ بالخُطواتِ بل بالمَخاطر، كانتِ البطَّةُ البَرِّيّةُ تَشُقُّ طريقَها. جَسَدُها مَشدودٌ كوترٍ تَعلَّمَ الصَّبر. ريشُها لا يَلمَعُ، لأنَّهُ تَعلَّمَ أنَّ اللَّمعانَ خيانةٌ في البَرّ.
عَيناها ليستا دائرتينِ للزِّينة، بل نافِذتينِ للحَذَر.
عَبَرَتِ السِّياجَ لا لأنَّها لا تَعرِفُهُ، بل لأنَّها لا تَعتَرِفُ بلغتِهِ. مَرَّتْ قربَ سِكَّةِ القِطار، وشَعَرَتْ باهتزازِ الحديدِ كنبضٍ غريب، لكنَّها لم تَخَفْ.
وحين دَخَلَتْ حَقلَ الألغام، لم تَكُنْ شجاعةً، بل كانتِ الأَرضُ نفسَها تَفتَحُ لها طريقاً، كأنَّ البَرَّ يَعرِفُ أَبناءَهُ، ويَحميهم حين يَعبُرونَ حُدودَ الجُنون.
نِيشان تَبِعَ الرائحة. لم يُفكِّرْ. لم يَسأَلْ. الغَريزةُ قادتْهُ كما يُقادُ الأَعمى بنارٍ داخليّة.
خَلفَ مَسلَخِ الخِراف، حيثُ الدَّمُ لا يزال دافئاً في الهواء، وحيثُ الموتُ روتينٌ يوميّ، التَقَيا.
لم يَكُنِ اللِّقاءُ تَفاهُماً، ولا وَعداً، بل تَلامُسَ اختلالَين. لم يَحدُثْ ما يَحدُثُ عادةً بينَ الأَنواع، بل ما يَحدُثُ حينَ تَتعَبُ الحُدودُ من حِراستِها.
صَمَتَ المكان، وانكمشَتِ اللَّحظة، وكأنَّ الزَّمنَ نفسَهُ أَدارَ وجهَهُ.
خَلفَ مَسلَخِ الخِراف، حيثُ الدَّمُ لا يزال مُعلَّقاً في الهواء كجملةٍ غيرِ مكتملة، وحيثُ الموتُ ُعتادٌ فلا يُثيرُ الأَسئلة، التَقَيا. لم يَكُنِ اللِّقاءُ احتفالاً، ولا عِناقاً، ولا توافُقاً بينَ نوعَين. كانَ تَصادُمَ اختلالَين، انحرافاً في النُّظُم، خَلَلاً في جدولِ الخليقة.
الزَّمنُ انكمشَ. الهواءُ ثَقُل. وكأنَّ الطَّبيعةَ نفسَها أَغمضَتْ عَينيها لِبُرهة. ما جَرى هناك لم يَكُنْ يَجبُ أن يَجري. لم يَكُنْ حُبّاً، ولا افتراساً، بل فِعلاً أَعمى نفَّذتْهُ الغَريزةُ حينَ فَلَتَتْ من رقابةِ النَّوع.
بعدَ ذلك، لم يَعُدْ شيءٌ كما كان.
عادَ نِيشان إلى القُنّ مُتأخِّراً، صِياحُهُ صارَ مبحوحاً، ودَجاجاتُهُ شَمِمنَ عليهِ رائحةً ليست لَهُنَّ.
عادَ الدِّيكُ نِيشان إلى القُنّ مُتأخِّراً، صِياحُهُ مَكسور، خُطوتُهُ أَقَلُّ يقيناً. الدَّجاجاتُ شَمِمنَ عليهِ رائحةَ البَرّ، ورائحةَ الماء، ورائحةَ خطيئةٍ لا يَفهَمنَها.
أمّا البطَّةُ البَرِّيّةُ، فحَمَلَتْ في جَسَدِها ما لم يَكُنْ يَجبُ أن يُحمَل، فحَمَلَتْ في جَسَدِها ما لا اسمَ له. حَمَلَتْ خطأً.
مَرَّتِ الأَيّام…
بعدَ ذلكَ اللِّقاء، لم تَعُدِ الأَيّامُ تَمشي كما كانت تَمشي.
النَّهارُ لم يَعُدْ يَبدأُ فجأة، واللَّيلُ لم يَعُدْ يَنتهي في وقتِه. كانَ هناكَ شيءٌ في البَرّ يَشُدُّ الزَّمنَ من كُمِّه، يُبطِّئُه، يُثقِلُ خُطاه، كأنَّ البيضةَ الّتي لم تُوضَعْ بعد كانت تَطلُبُ من الوقتِ أن يَنتظِرَها.
البطَّةُ البَرِّيّةُ لم تَعُدْ تَسبَحُ بعيداً. قَلَّ ارتحالُها، صارَ الماءُ أَقرَبَ إلى جَسَدِها، وصارتِ الأَرضُ أَكثرَ التصاقاً بظلِّها.
الغَريزةُ الّتي تَعرِفُ مواسِمَها ارتبَكَت؛ لا تَعرِفُ هل تَستعِدُّ للرَّحيلِ أم للبَقاء.
وفي جَسَدِها، لم يَكُنِ الحَملُ واضحاً بعد، لكن ثِقلاً غامِضاً بَدأَ يَتشكَّل، ليس كحياةٍ تُفرِح، بل كمَسؤوليّةٍ لم تُطلَب. كأنَّ الجَسَدَ فَهِمَ قبلَ العقلِ أنَّ ما يَتكوَّنُ فيهِ لن يُشبهَ ما وُلِدَ قبلَهُ.
حينَ وَضَعَتِ البيضةَ، لم تُصدِرِ الطَّبيعةُ صوتَها المُعتاد.
لا دَهشة، لا اكتمال. بيضةٌ أَكبَرُ قليلاً ممّا يَجب، قِشرتُها غيرُ مَلساء، كأنَّها تَردَّدَتْ قبلَ أن تَكتمل.
لونُها لم يَكُنْ أَبيضَ خالصاً ولا داكِناً تماماً، بينَهما مَنطقةٌ رَماديّةٌ تُشبِهُ التِباسَ الأَصل.
الأَيّامُ الّتي تَلَت لم تُقَس بالشَّمس، بل بدرجاتِ الصَّمت.
البطَّةُ جَلَسَتْ فوقَ البيضة كما لو كانت تَحرُسُ سِرّاً لا تُريدُ له أن يُفشى.
جَسَدُها كانَ أَكثرَ حرارةً من المُعتاد، وكأنَّ الطَّبيعةَ حاولَتْ أن تُسرِّعَ ما لا يَجبُ أن يَتأخَّر، أو تُؤخِّرَ ما لا يَجبُ أن يُولَد. الزَّمنُ نفسُهُ صارَ حاضِنة. كلُّ يومٍ يَمُرُّ كانَ يُضافُ إلى البيضة كطبقةٍ من التَّردُّد.
اللَّيلُ يُطيلُ جُلوسَهُ، والفَجرُ يَأتي خَجولاً، كأنَّ الضَّوءَ يَخافُ أن يَرى ما الّذي يَنمو هناك. داخلَ القِشرة، لم يَكُنِ النَّسلُ يَهدأ. لا انتظامٌ في النَّبض، ولا تَناظُرٌ في الحركة. كأنَّ الحياةَ نفسَها كانت تَتعلَّمُ كيفَ تكونُ حياةً جَديدةً دونَ دليل.
وحينَ جاءَ اليومُ، لم يُعلِنْ عن نفسِهِ.
لم يَكُنْ هناكَ كَسرٌ واضحٌ للقِشرة، بل تَشقُّقٌ بَطيء، صامت، كأنَّ البيضةَ لا تُريدُ أن تَنفَتِحَ بالكامل
خَوفاً ممّا سَتراه. خَرَجَ الخطأُ إلى العالَمِ دونَ صُراخ.
جَسَدٌ صغيرٌ لكن غيرُ مُتَّفِقٍ مع مقاييسِه. ريشٌ لم يَعرِفْ بعدُ إلى أَيِّ جهةٍ يَنتمي. مِنقارٌ لا يُشبهُ مِنقارَ الدَّجاجِ ولا مِنقارَ البطِّ تماماً، وأَقدامٌ تَحمِلُ تَردُّدَ الأَرضِ والماءِ معاً.
“پيلوڤا”، لم تَحتَجْ إلى وقتٍ طويلٍ لتَفهَمَ أنَّها ليست مِثلَ غيرِها. الهواءُ لم يُطاوعْ جَناحَيها كما يَجب، والماءُ لم يَحتَضِنْ جَسَدَها كفاية. كلُّ حركةٍ كانت محاولة، وكلُّ وقفةٍ كانت سؤالاً.
الأَيّامُ الّتي تَلَت ولادَتَها عادَتْ تَسير، لكن بشيءٍ من العَرَج.
كأنَّ الزَّمنَ نفسَهُ تَعلَّمَ من البيضةِ أنَّ الخطأَ إِذا وُلِدَ لا يُمحى، بل يُدار.
وهكذا،
سارَتِ الأَيّامُ وتَفتَّحَتِ البيضةُ، لا وِفقَ قانونِ الطَّبيعة. وما وُلِدَ بعدها لم يَكُنْ نَسلاً، بل شاهِداً.
شاهِداً على أنَّ الخَلقَ قد يَخطئ، وأنَّ الخطأَ قد يَعيشُ طويلاً، صامتاً، لكن حاضِراً في كلِّ شيءٍ سيأتي بعدَهُ.
وحينَ وُلِدَتْ “پيلوڤا”، لم تَصحُ الأَرضُ فَرَحاً، بلِ ارتبَكَت.
جَسَدٌ لا يَستقيمُ على نوع، صوتٌ لا يَتبعُ نداء، وحياةٌ حُكِمَ عليها منذُ اللَّحظةِ الأُولى أن تكونَ كاملةَ الوجودِ ناقصةَ الامتداد. هكذا بَدأَ الخطأ. لا بصوتٍ عالٍ، بل بانحرافٍ صغيرٍ سيَكبُرُ حتّى يَصيرَ أُسطورة. لم تَصرُخِ الأَرض، بلِ ارتجَفَت.
جَسَدٌ غيرُ مُتناسق، مَلامِحُ لا تَستقِرُّ على تعريف، وصوتٌ لا يُشبهُ النِّداءاتِ المَعروفة.
وُلِدَتْ وهي مَحكومةٌ بحُكمٍ صامت: أن تكونَ موجودةً من دونِ أن يُسمَحَ لها بالامتداد.
لا نَسلَ بعدَها. لا تَصحيحَ للخطأ. كأنَّ الطَّبيعةَ قالَتْ:
“هذا يَكفي”.
هكذا بَدأَ كلُّ شيء.
بخطأٍ صغيرٍ “پيلوڤا”، سيَكبُرُ حتّى يَصيرَ تاريخاً.








