تاريخ العرب

سامراء وبغداد: عندما أصبح للمسلمين خليفتان

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

في عام ٢٤٩ هجرية، الموافق ٨٦٣ ميلادية، اهتزت أركان الخلافة #العباسية اهتزازًا عنيفًا. كان الخليفة المتوكل قد لقي حتفه غدرًا على يد حراسه الأتراك، ولم يعش خليفته المنتصر سوى أشهر قليلة قبل أن يلحق به. تركت هاتان الوفاتان الدولة بلا رأس قوي، فانفتح باب الفتنة على مصراعيه.
في قصر سامراء الفخم، جلس على العرش الخليفة الجديد أبو العباس أحمد، الملقب بالمستعين بالله. كان شابًا هادئًا، لكنه شعر بالخوف يعصف به من كل جانب؛ فالأمراء الأتراك يتحكمون في كل شيء، والجند ينظرون إليه كدمية في أيديهم. ذات يوم، همس له مستشاروه: “يا أمير المؤمنين، سامراء لم تعد آمنة لك، والأتراك يريدون خليفة يطيع أوامرهم دون نقاش. اذهب إلى بغداد، فأهلها ما زالوا يحبون بني العباس حبًا قديمًا.”
فاستجاب المستعين، وفي ليلة هادئة، ركب سفينة حربية على #دجلة متجهًا جنوبًا. وعندما وصل إلى بغداد، فتحت المدينة أبوابها له بحفاوة بالغة. رحب به الناس في الشوارع، وصفقوا له وهم يهتفون: “أمير المؤمنين قد عاد إلينا!” فجلس المستعين في قصر الخلد، وشعر لأول مرة أنه خليفة حقًا.
لكن في سامراء، لم يكن الخبر سارًا. شعر الأتراك والجند بالإهانة: كيف يترك الخليفة عاصمتهم ويهرب إلى بغداد؟ فالتفتوا إلى الأمير أحمد بن المتوكل، الشاب الوسيم الجريء، وأعلنوه خليفة باسم المعتز بالله. رفعوه على الأكتاف في قصر الجوسق، وبايعوه تحت قبة السماء، وقالوا: “نحن مع من بقي بيننا، لا مع الهارب!”
هكذا، في لحظة واحدة، أصبحت الدولة العباسية العظيمة تملك خليفتين وعاصمتين. في بغداد يقيم المستعين، محاطًا بأهل العراق العرب الذين يرونه خليفتهم الشرعي. وفي سامراء يجلس المعتز، مدعومًا بالأتراك الأشداء الذين يسيطرون على الجيش.
ولم يكن الخلاف مجرد ألقاب. ففي #سامراء، فتح المعتز خزينة بيت المال ووجد فيها خمسمئة ألف دينار ذهبية، ففرح ووزّع منها على جنده ليثبت ولاءهم. أما المستعين في بغداد، فقد وصلت إليه أموال أكثر، مليون دينار كاملة، فابتسم وقال لقادته: “الآن نستطيع أن نصمد.”
بدأ الاستعداد للحرب. أمر المستعين واليه العظيم محمد بن عبد الله الطاهر أن يحصن بغداد تحسبًا للغزو. فحفر الرجال خندقًا عميقًا حول المدينة، وبنوا سورًا جديدًا قويًا، وأقاموا الأبراج والمجانيق. كانت بغداد تبدو كعروس محاصرة تستعد ليوم زفافها… أو ليوم معركتها.
أما في سامراء، فكان الجند #الأتراك يعدّون العدة، يشحذون سيوفهم ويدربون خيولهم، منتظرين أمر المعتز للزحف جنوبًا.
ظلت الدولة شهورًا طويلة مقسمة نصفين: نصف يصلي خلف المستعين في جامع بغداد، ونصف يصلي خلف المعتز في جامع سامراء. كان الناس يتهامسون في الأسواق: “كيف أصبح للمسلمين خليفتان؟ متى سينتهي هذا العار؟”
تلك كانت أيام الفتنة الكبرى، أيام انكسرت فيها هيبة الخلافة، وتجسد فيها ضعف الدولة العباسية التي كانت يومًا تمتد من المشرق إلى المغرب. وكانت بداية طريق طويل من الاضطرابات التي ستأكل جسد الخلافة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock