النقود منذ خروجها من الأكياس الثقيلة!

اخترع البشر المال قبل أن يبتكروا نظام الأرقام، وكان الدافع الأساسي لذلك هو غياب الأرقام ذاتها، ما جعل من الصعب تتبع الديون والالتزامات المالية وتذكر من يدين لمن وما المدة.
لتجاوز هذا العائق، اعتمد الأقدمون على وسائل بدائية كتحديد الديون باستخدام الأصابع، ثم تطور الأمر لاستخدام أشياء ملموسة كالأصداف والحصى اللامعة كوحدات للتبادل والحساب. هكذا، كان الطريق نحو اختراع النقود الورقية طويلا وشائكا، مليئا بالتحولات البطيئة والابتكارات التدريجية.
يبدأ تاريخ النقود الورقية بشكلها المعروف في الصين. فقبل ظهورها، اعتمد الاقتصاد على العملات المعدنية، التي كانت في غالبيتها من الفئات الصغيرة، ما استلزم حملها بأعداد ضخمة لإتمام المعاملات الكبيرة. لتسهيل حملها ونقلها، صُممت هذه العملات بثقوب مربعة في مركزها، لتُخَرَّز على خيوط وحبال مشدودة يسهل عدها وحملها. وكانت الحزمة القياسية من هذه العملات، التي تكفي لمعاملات تجارية اعتيادية، تزن أكثر من 3 كيلوغرامات، ما شكل عبئا كبيرا.
مع تطور التجارة بين الأقاليم الصينية في القرن التاسع الميلادي خلال عهد أسرة تانغ، أصبح نقل مئات الكيلوغرامات من العملات النحاسية عبر الطرق الوعرة أمرا شديد الصعوبة والمخاطرة. هنا ظهرت حلول مبتكرة، حيث سمحت الحكومة للتجار بإيداع كميات كبيرة من العملات المعدنية لديها واستلام إيصالات رسمية بنمط خاص بقيمتها. هذه الإيصالات، التي يمكن تداولها كضمان، تُعتبر في مفهومها الجوهري الأسلاف المباشرة للأوراق النقدية. في تلك الفترة، أعلن الأباطرة تحولا في النظام النقدي من الاعتماد على النحاس إلى الاعتماد على الورق، مع فرض سعر صرف إلزامي للأوراق النقدية الأولى، حيث كانت الحكومة تضمن استبدالها بعدد محدد من العملات النحاسية، وألزمت جميع التجار والمواطنين بقبولها وسيلةً للدفع.
التوسع في هذا النظام واجه عقبات في البداية، فعلى الرغم من ترحيب التجار بالابتكار، ظهرت مشكلة في عملية الاستبدال العكسي، حيث احتجزت الحكومة عمولة قدرها 10 بالمئة مقابل خدمة التخزين، ما حدّ من انتشار الأوراق النقدية في أول الأمر.
لمواجهة التحديات وتعزيز الثقة، احتكرت الحكومة الصينية إصدار النقود رسميا عام 1023، وبذلت جهودا كبيرة لحماية الأوراق النقدية من التزوير، فصنعتها من لحاء شجر التوت لزيادة متانتها ومقاومتها للتآكل، وطبعتها بألوان متعددة لتعقيد عملية تزويرها. مع ذلك، واجه النظام تحديا جسيما آخر تمثل في عدم القدرة على التحكم الدقيق في حجم الإصدار، ما أدى إلى موجات تضخم منتظمة.
شهدت الفترة بين عامي 1260 و1309، خلال عهد أسرة يوان، انهيارا كبيرا في القيمة فقدت خلالها النقود ما يقارب 1000 بالمئة من قيمتها، ما استلزم إجراء تخفيضات للعملة واستبدال الأموال القديمة بأخرى جديدة. الجدير بالذكر أن عهد أسرة يوان نفسه، حوالي عام 1280، شهد إصدار العملات الورقية الدائمة التي كانت صالحة مدى الحياة وقابلة للاستبدال بحرية بالذهب أو الفضة أو البرونز.
انتشرت فكرة النقود الورقية من الصين إلى آسيا والعالم العربي في القرن الثالث عشر بفضل العلاقات التجارية الوثيقة، لكن وصولها إلى أوروبا تأخر قرونا. كان الشكل الأوروبي الأول المشابه عبارة عن إيصالات إيداع يصدرها الصيارفة والبنوك تؤكد امتلاك الفرد لكمية معينة من العملات المعدنية مخزنة لدى المصدر.
كلمة “الورقة النقدية” بالإنجليزية “Banknote” تعود بأصلها إلى الممارسات الإنجليزية في منتصف القرن السابع عشر، حيث كانت الإيصالات التي يصدرها صاغة الذهب “مثل عائلة غولدسميث” متداولة، وكانت تسمى في البداية “أوراق غولدسميث”، ثم تحول الاسم إلى “الأوراق النقدية” بعد تحول تلك المؤسسات إلى بنوك.
كان الخطر الدائم أن تفقد هذه الأوراق قيمتها إذا أفلس البنك الذي أصدرها، وهو ما حدث كثيرا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ما أدى إلى ظهور فكرة البنك المركزي المملوك للدولة والمنوط به الحق الحصري في طباعة النقود لتنظيم السوق وإضفاء الاستقرار.
صدرت أول ورقة نقدية حكومية أوروبية رسمية في السويد عام 1661 عن بنك ستوكهولم، وذلك لأسباب عملية بحتة تتمثل في ثقل وعدم ملاءمة العملات المعدنية، خاصة النحاسية منها، للمعاملات الكبيرة. ولكن هذه التجربة السويدية المبكرة لم تكن مستقرة، إذ أدى الإفراط في الإصدار إلى تضخم وفقدان الثقة وإغلاق البنك بعد ست سنوات فقط، إلا أن المبدأ نفسه ترسخ وانتشر لاحقا في أوروبا. يعود الأصل اللغوي للمصطلح الإيطالي “nota di banco” الذي يعني “ورقة نقدية” أو “إيصال مصرفي” إلى القرن السادس عشر.
في روسيا، ظهرت أولى الأوراق النقدية، المسماة “أسينياتسيوني”، عام 1769 في عهد الإمبراطورة كاترين الثانية، بسبب الصعوبات العملية في إجراء المدفوعات الكبيرة باستخدام كميات هائلة من العملات النحاسية. ثم شهدت روسيا إصلاحا نقديا مهما بين عامي 1839 و1843 بقيادة وزير المالية يغور كانكرين، استبدلت خلاله الأوراق النقدية القديمة بأوراق ائتمان حكومية قابلة للاستبدال بالفضة والذهب، وفي عام 1866، ظهر تصميم جديد لأوراق الائتمان هذه حمل لأول مرة صورا لشخصيات تاريخية روسية على ظهرها، مثل ديمتري دونسكوي على فئة الخمسة روبلات، والقيصر ميخائيل فيودوروفيتش على فئة العشرة روبلات، والقيصر أليكسي ميخائيلوفيتش على فئة الخمسة وعشرين روبلا، والإمبراطور بيتر الأول على فئة الخمسين روبلا، والإمبراطورة كاترين الثانية على فئة المئة روبل.
وشكل عام، وعلى الرغم من اختلاف توقيت ظهور النقود الورقية في دول العالم، فإن الأسباب الكامنة وراء انتشارها كانت متشابهة وتتمثل في ندرة المعادن الثمينة، وصعوبة حمل العملات المعدنية وإجراء المعاملات الكبيرة بها، وتكلفة نقلها العالية. لقد أثبتت النقود الورقية أنها أسهل وأرخص في الإنتاج، ويمكن أن تكون متينة للغاية إذا ما صُنعت من مواد مناسبة. كما أن إصدارها وفر للدول أداة مرنة لتغطية النفقات الحكومية من خلال التحكم في المعروض النقدي، وإن كان ذلك يحمل في طياته مخاطر التضخم إذا لم تتم إدارته بدقة.
أما في العصر الحالي، فقد شهدنا صعودا متسارعا للمدفوعات غير النقدية والتقنيات المالية الرقمية، ما يطرح تساؤلا مشروعا حول مستقبل النقود الورقية وقدرتها على الصمود في وجه هذه التحولات الجذرية. سترسم مسارات الاقتصاد والتكنولوجيا والثقة العمومية في العقود القادمة الإجابة على سؤال ما إذا كانت هذه الابتكارات الحديثة قادرة على إزاحة النقود الورقية، التي سادت لقرون، من التعامل اليومي بشكل تام، أم أنها ستجد لنفسها شكلا جديدا تتكيف فيه مع المستجدات.









