دماء علي العرش

في عام **65 هـ** (685 م)، وبينما كانت الدولة الإسلامية تتخبط في دوامة الفتن والانقسامات، اجتمع أهل الشام في الجابية، قرب #دمشق، ليبايعوا رجلاً يُدعى **عبد الملك بن مروان**، بعد وفاة والده مروان بن الحكم في نفس اليوم. كان عبد الملك في الثامنة والثلاثين من عمره، وقد ورث دولةً مقتصرة على الشام فقط، بينما يسيطر **عبد الله بن الزبير** على #الحجاز والعراق ومصر، وتشتعل في العراق حركات ثورية أخرى.
كان عبد الملك يُعرف بحكمته ودهائه السياسي. لم يهرع إلى الحرب فوراً، بل أخذ يرسم خططه بهدوءٍ وصبرٍ استراتيجي، فهو يعلم أن الدولة لا تُبنى إلا بعد توحيد الصفوف وإخماد الفتن.
أول التحديات كانت استعادة العراق. بعث عبد الملك بجيشه بقيادة **عبيد الله بن زياد**، لكن سرعان ما ظهر عدوٌ جديد: **التوابون**، الذين خرجوا لأخذ ثأر الحسين بن علي رضي الله عنه. بدأوا بستة عشر ألفاً، لكن الخوف والتردد أضعفوهم حتى بقي مع زعيمهم **سليمان بن صرد** ثلاثة آلاف فقط. التقوا بجيش الشام في **عين الوردة** سنة 65 هـ، فدارت معركة غير متكافئة، قُتل فيها معظم التوابين، وفر الباقون إلى الكوفة لينضموا إلى **المختار الثقفي**.
قويت شوكة المختار بعد انضمام **إبراهيم بن الأشتر** إليه، فأطاح بوالي ابن الزبير على #الكوفة، وسيطر على شمال العراق والجزيرة، وأصبح كأنه أقام دولةً مستقلة بين دولتي ابن الزبير وعبد الملك. لكن عبد الملك، بذكائه المعهود، لم يهرع لمواجهته مباشرة. كان يعرف أن المختار يهدد ابن الزبير أكثر مما يهدده هو، فقرر الانتظار. وبالفعل، سار **مصعب بن الزبير**، أخو عبد الله، للقضاء على المختار قبل أن يتسع نفوذه. التقى الجيشان قرب **حروراء**، ثم حاصر مصعب المختار في قصر الإمارة بالكوفة حتى قُتل سنة **67 هـ**، فانتهت دولة المختار، وعاد العراق إلى سيطرة ابن الزبير.
الآن حان وقت المواجهة الحاسمة بين عبد الملك وعبد الله بن الزبير. لكن عبد الملك لم يسارع. أمضى السنوات الأربع التالية في تثبيت أركان حكمه في الشام: اصطلح مع **زفر بن الحارث** في قرقيسياء بعد سبع سنوات من التوتر، وقتل **عمرو بن سعيد الأشدق** الذي نازعه الخلافة، حتى اطمأن إلى استقرار ظهره.
أخيراً، في سنة **71 هـ**، زحف عبد الملك نحو العراق لمواجهة **مصعب بن الزبير**، الذي كان يقود جيش العراق. نزل عبد الملك في **مسكن**، بينما تقدم مصعب إلى **باجميرا**، وعلى مقدمته **إبراهيم بن الأشتر** الشجاع المخلص.
حاول عبد الملك تجنب القتال بالحكمة، فأرسل إلى مصعب رسولاً من قبيلة كلب يقول له: «أقرئ ابن أختك السلام، وقل له: يدع دعاءه إلى أخيه، وأدع دعائي إلى نفسي، ويُجعل الأمر شورى». لكن مصعب أجاب بحزم: «السيف بيننا». ثم أرسل أخاه **محمد بن مروان** يعرض عليه الأمان، فقال مصعب: «إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالباً أو مغلوباً».
دارت المعركة الكبرى قرب **دير الجاثليق** (أو قصر دجيل) في جمادى الآخرة سنة **72 هـ**. بدأت المعركة بقوة، فحمل إبراهيم بن الأشتر على مقدمة جيش الشام، لكن عبد الملك كان قد سبق وكاتب زعماء أهل العراق، فعمدوا إلى الخذلان. أمد مصعب إبراهيم بعتاب بن ورقاء، لكن عتاب كان من الذين بايعوا عبد الملك سراً، فانهار الصف، وقتل إبراهيم بن الأشتر بعد صمود بطولي، ثم تخلى أهل العراق عن مصعب حتى لم يبقَ معه سوى سبعة رجال. ظل مصعب يقاتل بشجاعة نادرة حتى أثخنته الجراح، فقتله **زياد بن ظبيان**.
عندما بلغ عبد الملك خبر مقتل مصعب، تأثر وقال بحسرة: «واروه، فقد والله كانت الحرمة بيننا قديمة، ولكن هذا الملك عقيم».
بهذا الانتصار عادت العراق إلى حظيرة الدولة الأموية، وعيّن عبد الملك أخاه **بشر بن مروان** والياً عليها. ثم أكمل مسيرته بإرسال **الحجاج بن يوسف** للقضاء على عبد الله بن الزبير في الحجاز، حتى توحدت الدولة الإسلامية تحت رايته مرة أخرى.
عبد الملك بن مروان لم يكن مجرد خليفة حارب ليبقى، بل كان سياسياً بارعاً، صبر حتى جاءت الفرصة، وخطط حتى أذهل المؤرخين بدهائه، فاستحق لقب **المؤسس الثاني** للدولة الأموية بعد معاوية بن أبي سفيان.









