تاريخ العرب

سقوط آخر عرش غساني

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

في أرض #الشام الخصبة، حيث تتداخل رمال الجزيرة مع بساتين الغوطة، حكم آخر ملوك الغساسنة: الملك جبلة بن الأيهم. كان الرجل السادس والثلاثين في سلسلة ملوك هذه المملكة العربية النصرانية التي طالما وقفت حليفة وفية للإمبراطورية البيزنطية، تحرس حدودها الجنوبية مقابل امتيازات وسلطان.
بدأت قصة نهايته مع صوت السيوف التي رجّت أرض الشام في أيام الفتوحات الإسلامية. كان #جبلة يقود عشائر #غسان ولخم وجذام وغيرها من قبائل العرب الموالين للروم، يقاتلون تحت رايات هرقل ضد جيوش المسلمين التي تقودها أسماء لامعة مثل خالد بن الوليد. دارت معارك كثيرة، من دومة الجندل إلى تخوم اليرموك، لكن القدر كان يعد لجبلة مفاجأة لم يتوقعها.
في ذلك اليوم الحاسم من عام 636، عند ضفاف نهر #اليرموك، انهارت الجيوش البيزنطية الضخمة أمام صمود المسلمين وإيمانهم. سقطت الرايات الصليبية الذهبية في التراب، وتشتت الجنود كأوراق الخريف. وقف جبلة وسط الفوضى، يرى حليفه القديم هرقل يخسر معركته الكبرى، وشعر بشيء يتحرك في أعماقه.
اقترب من معسكر المسلمين، ونظر إلى وجوه الأنصار من الأوس والخزرج، وإلى بعض رجال غسان الذين انضموا إلى الجيش الجديد. صاح بصوت يعلو فوق ضجيج المعركة: «أنتم إخوتنا وبنو أبينا!» كانت تلك الكلمات إعلان انحيازه، فدخل في الإسلام مع من بقي من قومه، وبايع الخليفة عمر بن الخطاب في المدينة.
لكن السلام مع النفس لم يدم طويلاً. في يوم من الأيام، في مجلس عمر العادل، حدث ما لم يكن جبلة يتوقعه. أهان رجل من قبيلته بدوياً من بني فزارة (أو تميم في بعض الروايات)، فاشتكى الرجل إلى الخليفة. قال عمر بصرامته المعتادة: «القصاص، يا جبلة. يُقتص للفزاري من غسانيّك».
تجمد جبلة لحظة. هو الملك الذي اعتاد أن يُقبّل الناس أقدامه، ويخدمونه كأمير متوج تحت ظل قسطنطينية العظيمة، يُطلب منه الآن أن يخضع لقانون يساوي بين الملك والراعي؟ شعر بالكبرياء القديم يغلي في صدره، فهمس لنفسه: «والله لا أكون في دين يُقتص فيه مني لرجل من مزينة أو فزارة!»
في تلك الليلة، جمع جبلة أتباعه المخلصين، وانطلق سراً نحو الشمال. عبر السهول والجبال حتى وصل إلى أسوار القسطنطينية المنيعة، حيث استقبله هرقل بحفاوة ملك عائد إلى بيته القديم. عاد جبلة إلى النصرانية، وارتدى ثياب المنفى الاختياري، يعيش في قصر فخم لكنه بعيد عن عرشه وعن أرض أجداده.
هكذا انتهت قصة آخر ملوك الغساسنة، جبلة بن الأيهم، الذي عاش في فترة انتقالية بين الإمبراطورية البيزنطية والفتوحات الإسلامية. شهد سقوط نفوذ الغساسنة التقليدي وصعود القوى الجديدة في المنطقة وظل اسمه مذكوراً في المصادر التاريخية كشاهد على التحولات السياسية والدينية التي غيرت ملامح بلاد الشام في تلك الفترة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock