تاريخ العرب

يدٌ من حديدٍ ولسانٌ من نار

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

في أزقة #الطائف الضيقة، عام الجماعة **41 هـ**، أبصر النور طفلٌ من أسرة ثقيف العريقة. كان اسمه في البداية **كليب**، لكنه سيكبر ليصبح أحد أبرز الرجال في تاريخ الإسلام: **الحجاج بن يوسف الثقفي**.
نشأ في بيت يغلب عليه التقوى والعلم. كان أبوه يوسف رجلاً كريماً، يُعلّم الصبيان **القرآن** دون أجر، وأمّه امرأة كريمة من ثقيف. كان الصغير يحفظ كتاب الله بلسان فصيح مُدهش، ويستمع إلى أحاديث الرسول ﷺ، لكن روحه كانت تكويها نار الطموح الكبير.
لم يرضَ بحياة المعلم ، فغادر الطائف شاباً متجهاً إلى الشام، قلب الخلافة الأموية في دمشق، حيث كانت الدولة تكافح للبقاء بعد وفاة مروان بن الحكم.
في #دمشق التحق بالشرطة، فأعاد إليها النظام بحزمٍ لا يُصدَّق، حتى لفت أنظار قائدها **روح بن زنباع**، ثم قدّمه إلى الخليفة **عبد الملك بن مروان**. قال الحجاج للخليفة بثقة:
«أنا يدك وسوطك يا أمير المؤمنين».
فأعطاه الخليفة الثقة، فعيّنه على الشرطة، ثم شاركه فى قتال **مصعب بن الزبير**، ثم قاد الحملة الكبرى على #مكة لمواجهة **عبد الله بن الزبير**. حاصر الحرم، وضرب الكعبة بالمنجنيق حتى سقط ابن الزبير شهيداً، فعاد الحجاز إلى الدولة الأموية.
ثم ولّاه عبد الملك العراق، فدخل الكوفة خطيباً يُرعب القلوب بكلماته الشهيرة:
«إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها… وإني لصاحبها، وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى».
فخضع الناس، واستتبّت له الطاعة.
**وبعد أن قطع دابر الفتنة وأحلّ الأمن**، استأنف الحجاج حركة الفتوحات الإسلامية التي توقفت بسبب القلاقل. أعد جيشاً عظيماً أُطلق عليه «جيش الطواويس»، لكن ابن الأشعث نكص على عقبيه وأثار فتنة استغرق إخمادها ثلاث سنوات.
ثم عاود الحجاج سياسة الفتح بقوة، فاختار قادةً أكفاءً وبعث بهم في حملاتٍ متتابعة:
– **قتيبة بن مسلم الباهلي**، ولاه خراسان سنة **85 هـ**، ففتح بلخ، وبيكند، وبخارى، وسمرقند، وخوارزم، وكاشغر على حدود #الصين، فانتشر الإسلام في ما وراء النهر، وصارت مدنها مراكز حضارة إسلامية عظيمة.
– **محمد بن القاسم الثقفي، ابن عمه الشاب الذي لم يتجاوز العشرين، فأرسله لفتح بلاد #السند. فتح خلال سنوات قليلة (89-95 هـ) مدن وادي السند، وكتب إلى الحجاج يستأذنه في فتح قنوج، فأجابه: «سر فأنت أمير ما افتتحته». وحثّ قتيبة: «أيكما سبق إلى الصين فهو عامل عليها».
ولم يقتصر على الجهاد بالسيف، بل قام بإصلاحاتٍ عظيمة في العراق:
منع النوح على الموتى، وقتل الكلاب الضالة، وحظر التبول في الطرقات وبيع الخمور، وبنى جسوراً على الأنهار، وصهاريج للمياه قرب البصرة، وحفر آباراً للمسافرين.
وبنى مدينة **واسط** بين الكوفة والبصرة، فاتخذها مقراً لحكمه.
وأصلح النقد، وحفر القنوات للزراعة، وساعد الفلاحين بالقروض والحيوانات.
ومن أجلّ أعماله: اهتمامه بنقط حروف المصحف وإعجامه بعد انتشار التصحيف، فأمر بوضع علامات الإعراب، وجزّأ القرآن، ووحد القراءة على رواية عثمان، وكتب مصاحف موحدة وبعث بها إلى الأمصار.
**ثم جاءت إحدى أشهر المشاهد في حياته**، قبضه على **سعيد بن جبير**، العالم التقي الذي خرج مع ابن الأشعث احتجاجاً على ظلمه. أُحضر سعيد مكبّلاً أمام الحجاج، فدار بينهما حوارٌ خالد:
الحجاج (متهكماً): ما اسمك؟
سعيد: سعيد بن جبير.
الحجاج: بل أنت شقيّ بن كسير!
سعيد: أمي أعلم باسمي منك.
حاول الحجاج إغراءه بالمال، فأجابه سعيد:
«جمعتَ هذا المال لتتقي به فزع يوم القيامة؟ فإن كان صالحاً وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت».
غضب الحجاج، أمر بذبحه. قبل أن يُذبح، استقبل سعيد القبلة وقال:
«وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً…»
ثم دعا:
«اللهم لا تسلّطه على أحد يقتله بعدي».
ذُبح سعيد على النطع. ولم تمضِ إلا أيام قليلة حتى أصيب الحجاج بأكلةٍ في بطنه. بدأ يهذي في لياليه:
«ما لي ولسعيد بن جبير؟!»
«كلما أردت النوم أخذ برجلي!»
وفي الواحد والعشرين من رمضان عام **95 هـ**، في واسط التي بناها بنفسه، فارق الحياة.
الحجاج… رجلٌ مثيرٌ للجدل، جمع بين الحزم الذي أنقذ الدولة، والدماء التي سالت كثيراً، والإصلاحات التي غيّرت وجه العراق، والفتوحات التي وسّعت حدود الإسلام.
القصة لا تزال تُروى حتى اليوم، والحكم عليه يختلف باختلاف الراوي.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock