رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :خيانة الرواية

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

ـــــ الرواية التي لا تكتشف عنصراً مجهولا في الوجود هي رواية لا أخلاقية.*ميلان كونديرا.
ورد هذا الكلام في كتابه” فن الرواية” كما في مقابلة معه وهو من النادر أن يجري مقابلات هو اقتباس منسوب إلى الفيلسوف والروائي النمساوي هيرمان بروخ تبناه كونديرا وشرحه بعمق، وهو يمثل جوهر فلسفة كونديرا عن دور الرواية. من المؤسف نحن العرب لا نضع كشف الحقيقة التاريخية ولا السرد الصادق ولا المعرفة ولا الخلق والابداع كجزء من الاخلاق. ظل الفهم العربي للاخلاق محصورا فيما نعرف جميعا وكذلك مفهوم الشرف.
ما هي ” اخلاق الرواية؟” يجيب كونديرا” إنّ المعرفة هي الأخلاق الوحيدة للرواية” وأخلاق الكاتب تنعكس في الاجهار بالحقيقة لأن الأخلاق معرفة ، واكتشاف المجهول والمنسي والمخفي هو أخلاق وشجاعة ونبل. تكرار الحكايات موت ولا أخلاق وفراغ ولاجدوى على حساب حقائق منسية.
ليست وظيفة الروائي اصدار الاحكام الاخلاقية عن هذا جيد وهذا سيئ بل” تعرض تعقيد الموقف الانساني” الاحكام السريعة بلا فهم كيف تمت الحوادث وما هي الظروف وكيف تشابكت القوى وكيف وقعت الاخطاء العامة او الفردية ، هذه الاحكام المتسرعة من طبيعة الاديولوجيا حيث يشعر العقل الملقن بالطمأنينة بالحكم الفوري كما يشعر بالزهو من محيط هش في كونه صاحب معرفة وفي الحقيقة منافق ودجال وبائع أوهام لأن ” العقل الأخلاقي” في الرواية وفي الحياة هو تأجيل الحكم الأخلاقي من أجل فهم أعمق وهذا الفهم الأعمق هو الشكل الأنقى والأبهى والأجمل للأخلاق في أجمل صورها ويعكس ذاتاً صافية من الداخل كنبع ماء، كما أن الحكم السريع في الرواية وفي الحياة يعني اهدار فرصة كشف الحقيقة وفي النهاية يعني انه سلوك لا اخلاقي وغير شريف.
الضمير الحي، لأنه أقدم من الحضارة ومن الثقافة ومن المعرفة، لا يقع في خطأ أبداً إلا اذا تشوه او تحطم او وجد لغة تبرره او وجد نفسه في ذات مزيفة وعندها يموت الضمير عضويا وطبياً وليس أخلاقياً فحسب.
يوم كتب غابريل ماركيز روايته الشهيرة: ” مئة عام من العزلة”،
كان يضع في تفكيره كما قال مذبحة إضراب عمال الموز عام 1926 على يد القوات الكولومبية وتأثر ماركيز بالعقيد ماركيث وهو جده وجسده في الرواية لرفضه السكوت عن مذبحة عمال الموز مع أن ماركيز كان طفلاً وقت المذبحة وفي السادسة من العمر،
وقبله بخمس سنوات كتب الروائي سيبيدا ساموديو رواية وحيدة: ” البيت الكبير” عن المجزرة نفسها وكان عمره اربع سنوات ومن الواضح حسب النقاد تأثيره على ماركيز الذي لا يخفي ذلك بل كتب لها مقدمة. لم يقل احد ان غابريل وساموديو كانا صغيرين ولم يعرفا الحادثة.
جدارية غارنيكا لبيكاسو عن مذبحة بلدة صغيرة في اسبانيا من قصف الطائرات النازية والفاشية: هو العقاب لكي لا تتكرر الجريمة، لكي يبقى القتلة في الذاكرة. هكذا تؤسس الشعوب مصدات ثقافية واخلاقية ضد الجريمة. لماذا تقيم الشعوب النصب التذكارية في الساحات العامة؟
كثيرا ما حدث في الأدب والرواية والتاريخ أن تُحرك مثل هذه المذابح
وجدان الشعراء والروائيين والرسامين،
لكن من الغريب أن وجدان الروائي والرسام العراقي لم يتحرك أمام
مجازر الجنود سواء عشرات الالاف الذين دفنوا احياء في الكويت بعد وقف اطلاق النار او أسرى في حروب الجبال،
وخاصة مذابح الأسرى كما لو أن هؤلاء أولاد الغياب والضباب والخايبة ومن المنطقي والطبيعي أن تكون الخاتمة القتل.
كيف يكتب عنهم من كان كل تجربته في الحياة في المقاهي والحانات والغرفة المغلقة وثرثرة المثقفين وهمومهم في حين الحياة في الأمكنة المفتوحة؟
لكن البعض يركض نحو ضجة اعلامية منظمة عن جرائم بحق أقلية يجري تسليط الضوء عليها دون أخرى مع أن جرائم الارهاب طالت الجميع،
وتكون الرواية جاهزة خلال أيام حسب شروط مسابقات الجوائز وشروطها
الضمنية وغير المعلنة والتي يعرفها كل روائي محترف، ومنها التركيز على ظلم الأقليات أولاً،
والتركيز على صورة نمطية عامة عن العربي والمسلم الارهابي، ثانياً،
وستكون اللجنة شاكرة لو تعرض الروائي لما يسمى في
العراق فرهود اليهود ـــــــــــــــــــ المنظم من الموساد ـــــــــــ كما لو أن نصف مدن العراق التي خربت وتحولت الى أنقاض،
كالرمادي وصلاح الدين والموصل وغيرها لا تصلح كمادة للادب والفن.
جريمة إعدام أكثر من 130 جندياً سلموا أنفسهم لقوات حزب الطالباني في آذار 1991 كما في الصور هم عزل وفي وضعية مسترخية وفقراء من الجنوب لكن بشهادة المصور الالماني الحاضر تم اقتيادهم الى قاعة كبيرة واعدامهم بدم بارد،
وصور هو العملية ثم صدر كتاب في لندن بعنوان: جريمة حرب،
للمصور نفسه، وهي ليست الجريمة الوحيدة بحق الأسرى بل جرائم تعرضنا لها في مقالات كثيرة.
لماذا تصلح المرأة الإزيدية فقط مادة روائية ولا تصلح العراقية والعربية المسلمة والمسيحية التي تعرضت لكل أنواع الهتك كموضوع روائي؟
لماذا قتل أو خطف أوروبية في العراق يصبح ملحمة أدبية وذبح هؤلاء الجنود الابرياء عملية منسية؟
ماذا نتوقع من سياسيين عندما يتعامل أدباء الوطن مع الضحايا بهذا الاهمال والاحتقار؟ وكما قال نيتشه” الوعي لا يعذب إلا ذوي الضمائر الحية”. الذين تمكنوا من اخراس ضميرهم نجحوا في انتحار صامت لان ما تبقى هو جثة متنقلة في انتظار الدفن.
الخداع في السياسة واضح، لكنه في الأدب خفي ولا يعرفه إلا أصحاب الكار والحرفة والمهنة، بل يصبح المخادع مبدعاً وبطلاً أمام جمهور يستطيع دجال أو مشعوذ التلاعب به، فكيف من روائي محترف؟
ثم أين رفاة هؤلاء لكي تنتهي معاناة الأهل؟ إسرائيل تطالب برفاة الطيار رون آراد من عام 1986 في لبنان حتى اليوم وذهبت وحدة كوماندوس اسرائيلية للبحث في إحدى المقابر في سوريا، والصين في علاقات متوترة مع اليابان منذ قرن لاعدام أسرى صينيين.
القضية لا تتعلق بالموتى الضحايا بل بكرامة الاحياء لكي لا يكون قتلنا رخيصاً: كيف نطالب العالم بإحترامنا اذا كنا نحن لا نحترم أنفسنا؟
ثلاثة قادة من حزب الاتحاد الوطني الذين اصدروا أوامر الاعدام بحق الأسرى صاروا رؤساء جمهورية وهم الطالباني وبرهم وعبد اللطيف، وهم يتحملون المسؤولية الاخلاقية والجنائية عن تلك الجريمة ويستحقون المحاكمة لان هذا النوع من الجرائم لا يسقط بتعاقب الزمن:
من غير المعقول واللامعقول ان من بين القيادة المسؤولة عن اعدام هؤلاء هو اليوم رئيس جمهورية يحكم أهل الضحايا والبلد.
أين رفاة هؤلاء حضرة الرئيس؟
ـــــــــــــــــــــــــــ صدر كتاب في لندن عام 1999 لكل من روي كوتمان ودافيد ريف يحمل إسم” جرائم الحرب” عن مذبحة الأسرى وكانا شهود المجزرة من الاول للاخير ولم يكن الجنود في وضعية قتالية بل حالة استرخاء كما في الصور. الجمهور الصامت شريك.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock