فنجان ود _ بقلم / نجلاء محجوب

فِنجان وُدّ..
أودّ لو أمشي إلى الخلف.
كأن أعود بالتقويم ثلاثين عامًا، مثلًا.
وتتوقف قدرة الأيام عن الركض للحظات،
الوقت يخلع معطفه عند الباب،
يجلس طويلًا، لا يأتي كغريب،
بل يأتي براحة ممتدة كابن من أبناء البيت،
وتعود النسمات الغائبة كيدٍ تتفقد أصابعها،
أودّ تذوّق طعم يوم قديم،
ضحك فنجان الودّ في يد جدّي،
وكرسي أبي الخشبي يصغي مثلنا للحكايات،
كأن الخشب يتنفس الدفء والدهشة،
دفء يتدفق كنغمة عذبة،
ودهشة ركض طفولتنا خلف بائع
الحلوى الملونة، وغزل البنات،
الستائر تتطاير بخفّة الفراشات،
تفسح للشمس طريقًا،
لتزرع وردًا على الجدران،
وتسكب الضوء كعطر ينبض بالحياة،
يتصافح مع رائحة البخور،
وصوت المذياع،
ونداء بائع الجرائد، بلكنة ممتدة..
ونحيبٍ مشروخ، مطبوع بالذاكرة.
على الحائط، تسكن ساعة البندول،
تمشي ببطء، عجوز يتحدث إلى خطواته،
يعرف أن كل نبضة مكدسة بالأسماء،
أستنشق رائحة خبز أمي،
خبز معجون بطمأنينة ضحكتها،
كأن البيت قلب.
ومن كفّيها تنضب البركة..
الجدران طلاءها عهود بالفرح،
أعمدته وزواياه معجونة بالحب،
والنوافذ تحفظ الأسرار ووجوه الزائرين،
وعند الغروب، الأبواب يحرسها الدعاء.
الطرقات تعرف وقع خطانا،
أحاديث الأنس بيننا،
والأسرار.
لا يمر الخصام أو الجفاء من عتبة البيت.
أعيش يومًا طويلًا من أيام مضت
يوم ينبض بالوجوه، بالأصوات، والضحكات
لا يمضي دون نكهة حب،
لا ينتهي دون عناق دافئ، وودّ حقيقي،
يترك بصمته في القلب،
ترفرف النوارس فوق الخرّير،
تبارك وشوشات النهر،
وتصالح موجتان عند مدّ وجزر،
منذ غاب الأحبة، صار للحب وجه آخر،
ابتلّت القلوب بدمع الفرقة،
وجفّت الضحكات،
ونسِي الودّ كيف يطرق الأبواب..!
الآن.. على حافة الوقت،
تقدّم لي الذاكرة وجوهًا وملامح،
كفنجان قهوة من بيتنا القديم،
بطعم الأمس ورائحته، حين تلحظ صمتي،
يرتجف قلبي، واليوم الضيّق،
كصقيع يحاول أن يلمس الدفء،
ما زال الضوء يرتّب..
الرفوف، والطرق، والصناديق،
يمسك بخيط ودّ قديم،
يلتحم بخيط الزمن، والأرض.
من أي باب يُطوى ألبوم الذاكرة؟
أغلق عينيّ..
لأتوارىٰ في ندى الحنين،
خلف الأصوات، وتراتيل الضوء،
ونَسيم الودّ الذي كان،
قبل أن يتسرّب الوقت من بين أصابعي،
وتركض الأيام بلا ذكريات..!
نجلاء محجوب









