كوسوفا في فكر ومواقف الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان
بقلم: الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي

كوسوفا في فكر ومواقف الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان
بقلم: الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي
الملخص
يقدم هذا المقال تقييمًا شاملًا لإسهامات الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان في الفكر الإسلامي، وخاصة في:
• الفقه المقارن
• القضايا المعاصرة
• العلاقات الدولية
• الإعلام والفكر والثقافة
• قضايا الأمة المستضعفة
• ولا سيما قضية كوسوفا
كما يبرز طبيعة علاقته الوثيقة بالكاتب، وما اتسمت به من تعاون صادق في خدمة الحق، ويختتم بتأكيد مكانة هذا العالم في الفكر الإسلامي الحديث.
المقدمة
يُعَدّ الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان (1935–2016) واحدًا من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، ومن أبرز الشخصيات الأزهرية التي أسهمت بعمق في تجديد الخطاب الشرعي، وبلورة رؤية فقهية واعية لقضايا العصر، وتقديم نموذج للعالِم الذي يجمع بين الدراية العميقة بالتراث والبصيرة النافذة بواقع الأمة وتحدياتها.
فقد جمع رحمه الله بين الفقه المقارن، والفكر السياسي الإسلامي، والعلاقات الدولية، والإعلام، والعمل الدعوي، والالتزام الأخلاقي بقضايا الشعوب المقهورة، وفي مقدمتها قضية كوسوفا التي منحها من اهتمامه الفكري والإنساني أكثر مما منحته مؤسسات وهيئات كاملة.
ومنذ اللقاء الأول الذي جمع بيني وبينه في القاهرة، نشأت بيننا علاقة تتجاوز حدود التواصل العلمي التقليدي، إلى شراكة فكرية وإنسانية في فهم قضايا البلقان، ورصد أوجاع شعب كوسوفا، والتأسيس لرؤية شرعية وسياسية تجاه العدوان الصربي والتطهير العرقي.
لقد أدرك الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان مبكرًا طبيعة ما يجري في البلقان، ورأى فيه امتدادًا لما تتعرض له الأمة الإسلامية من ظلم وإهمال دولي، فحمل هذه القضايا على عاتقه بضمير العالم الرسالي الذي لا يكتفي بالتشخيص، بل يقدّم رأيًا، ويفتح بابًا للنقاش، ويوثّق، ويكتب، ويواجه.
إن هذا المقال لا يهدف فقط إلى التعريف بجوانب شخصية هذا العالم الجليل، ولا إلى رصد إنتاجه العلمي والفكري، بل إلى إحياء النموذج الذي مثّله: نموذج العالم الموسوعي الذي يُزاوج بين العلم والعمل، بين الاجتهاد النظري والموقف الأخلاقي، بين الفقه النصي والوعي السياسي، بين الاهتمام المحلّي والرؤية العالمية.
كما يسعى المقال إلى توثيق تجربتي الشخصية معه، باعتباري ممثلًا لكوسوفا في مصر، وشاهدًا على مواقفه، ومتابعًا لإسهاماته في تعريف العالم العربي والإسلامي بقضية كوسوفا، ومؤمنًا بأن شهادتي عنه جزء من الوفاء لهذا الرجل الذي وقف معنا في أحلك اللحظات.
ولم تكن معرفتي به معرفة عابرة أو مرتبطة بحدث عابر؛ بل نشأت بيني وبينه علاقة علمية وإنسانية راسخة، عمادها الاحترام المتبادل، والتعاون الصادق في خدمة قضايا الأمة الإسلامية، وفي مقدّمتها قضية كوسوفا. وقد شرّفتني الأيام بأن أزوره مرات عديدة في بيته العامر بالقيم والأخلاق والعلم، وأن أكتب عنه لاحقًا كتابي الموسوم:
“الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان ودوره الريادي في خدمة قضية كوسوفا” ضمن سلسلة كوسوفا واتجاهات الفكر المعاصر.
وهكذا، يقدّم هذا العمل قراءة شاملة لسيرته العلمية، وإسهاماته الفقهية، وأدواره الإعلامية والثقافية، ومواقفه من قضايا الأمة، وخاصة موقفه التاريخي من قضية كوسوفا، إضافة إلى توثيق لقاءاتنا الفكرية،
وتحليل القصيدة التي كتبتها في رثائه، لتكون خاتمة أدبية تعكس عمق العلاقة التي ربطتني به حتى رحيله في 24 ديسمبر 2016.
الفصل الأولً: السيرة العلمية ومنهج التكوين الأزهري
وُلد الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان في 27 نوفمبر 1935، ونشأ في بيئة علمية أصيلة، وتربّى في أحضان الأزهر الشريف الذي كان ولا يزال منارة العالم الإسلامي وقلعته العلمية. وقد تميّز منذ بداياته بثباته على المنهج الأصيل، مع قدرة فائقة على التحليل والاستنباط.
وقد تدرّج في مسيرته التعليمية والأكاديمية حتى صار واحدًا من أبرز علماء الفقه المقارن، متمتعًا بملكة علمية راسخة، وذاكرة فقهية دقيقة، وقدرة لافتة على صياغة الأحكام والاستدلالات بعبارات محكمة تجمع بين بساطة اللغة وعمق المعنى.
الفصل الثاني: إسهاماته الفكرية والفقهية
ترك الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان تراثًا علميًا غزيرًا، يُعدّ إضافة نوعية للمكتبة العربية والإسلامية. ومن أبرز مؤلفاته:
• رياسة الدولة في الفقه الإسلامي
• النظام القضائي في الفقه الإسلامي
• الحقوق والواجبات والعلاقات الدولية في الإسلام
• المبادئ العامة للإدارة في الإسلام
وتكشف هذه المؤلفات عن رؤيته الشمولية التي لا تقف عند حدود الفقه بالمعنى الضيّق، بل تمتد إلى قضايا الحكم والإدارة والقانون الدولي والعلاقات بين الشعوب.
كما كتب عشرات البحوث المحكمة والمقالات الفكرية في الصحف والمجلات، والتي عكست عمق نظريته الاجتهادية في معالجة المستجدات، ومنها:
• قضايا استئجار الأرحام
• الاستنساخ
• النوازل الفقهية المعاصرة
• فقه الأقليات
• فقه الدولة
لقد كان عالمًا يعيش عصره، يقف على مستجداته، ويجتهد بجرأة مسؤولة في قضاياه الملحّة.
الفصل الثالث: دوره في خدمة قضايا الأمة: نموذج عالم يحمل همّ الشعوب
كان الدكتور محمد رأفت عثمان صاحب ضمير حيّ ووجدان يقظ، شديد الحساسية تجاه الظلم والاضطهاد. وقد شغلت قضايا الأمة الإسلامية جزءًا كبيرًا من فكره وقلمه، وخصوصًا المجازر التي تعرّضت لها الشعوب المسلمة في:
• البوسنة والهرسك
• كوسوفا
• مقدونيا
وكان يرى أن الحضارة الغربية التي ترفع شعار حقوق الإنسان تمارس ازدواجية فادحة عندما يتعلق الأمر بالشعوب الإسلامية، مستشهدًا بعجزها المتعمّد عن إنهاء معاناة هذه الشعوب رغم قدرتها الواضحة على ذلك.
وكان يؤكد دائمًا أن وحدة الأمة ومقاطعة الظالمين سياسيًا واقتصاديًا تمثلان الحلّ الجذري لكثير من النكبات، مستشهدًا بتجربة الزعيم غاندي في مواجهة الإمبراطورية البريطانية.
الفصل الرابع: لقاء الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي بالأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان ودورهما في دراسة قضايا العالم الإسلامي وقضية كوسوفا
انطلاقًا من الحرص العميق على إبراز قضايا العالم الإسلامي على الساحتين المحلية والدولية، وبخاصة قضية كوسوفا التي كانت ولا تزال من أبرز قضايا الأقليات المسلمة في منطقة البلقان، رأينا ـ – ممثل كوسوفا في مصر وهو أيضا ممثل الجالية الألبانية في مصر – ـ ضرورة التواصل مع المفكرين والعلماء المعاصرين؛
ليكونوا على اطلاع مباشر على حقيقة ما يجري من أحداث، وللاستئناس بآرائهم العلمية المؤثرة التي كثيرًا ما تسهم في توجيه الرأي العام وخدمة قضايا الأمة.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن نتوجه للقاء أحد أبرز علماء الأزهر الشريف في العصر الحديث، وهو الأستاذ الدكتور/ محمد رأفت عثمان، المفكر الأزهري المعروف، وعضو مجمع البحوث الإسلامية لاحقًا، وصاحب المواقف الشجاعة في الدفاع عن قضايا المسلمين،
وإبراز معاناتهم في المحافل العلمية والإعلامية. لقد شكّل الأزهر الشريف مرجعية تكوينية وروحية لهذا العالم الجليل، فصنع منه نموذجًا للعالِم الذي يصدع بالحق، ويقول كلمة العدل دون تردد، ولا يخشى في الله لومة لائم.
1. الدوافع الأولى للّقاء
لقد ازددنا قناعة بأهمية التواصل مع الدكتور محمد رأفت عثمان كلما قرأنا مقالاته في الصحف، أو تابعنا لقاءاته في الإذاعة ـ وبخاصة إذاعة القرآن الكريم ـ أو اطلعنا على بحوثه وكتاباته التي شكّلت رصيدًا معرفيًا ثمينًا في الدفاع عن قضايا الأمة.
كان صوته حاضرًا دائمًا في الشأن الإسلامي العام، ومن هنا رأينا أن نضع بين يديه صورة شاملة عمّا يجري في البلقان، وما يتعرض له المسلمون من عمليات إبادة وتطهير عرقي.
وفي بداية مأساة البوسنة والهرسك سعينا جاهدين إلى الالتقاء به؛ لتزويده بمعلومات دقيقة ومستجدة عن تطورات الأحداث، وقد وجدنا منه استقبالًا مفعمًا بالترحيب، وحفاوة خاصة بلقاء أحد مسلمي البلقان، وهو ما اعتدناه منه دائمًا؛ إذ كان يفرح بلقاء أبناء هذه المنطقة، ويحرص على تقديم الدعم العلمي والمعنوي لهم.
2. اللقاء الأول: مكتبة العالم ومجلس العلم
كان اللقاء الأول في منزله، وقد أحسسنا منذ الدخول أننا أمام مكتبة إسلامية متكاملة، لا أمام بيت عادي. كانت الكتب والمجلدات تحيط به من كل جانب، تعبّر عن انشغاله الدائم بالبحث والتحقيق والترجيح الفقهي والفكري في شتى المجالات. جلستُ معه جلسة علمية رفيعة المستوى
، دار فيها الحديث حول قضايا البلقان: البوسنة والهرسك، كوسوفا، مقدونيا، إقليم السنجق، وألبانيا، وناقشنا أحوال المسلمين هناك، وما يحتاجونه من دعم علمي وسياسي وإعلامي.
3. أثر اللقاء في الساحة العلمية
لم تمض أيام قلائل بعد اللقاء حتى بدأ الدكتور عثمان الكتابة عن مأساة المسلمين في كوسوفا والبوسنة والهرسك، عارضًا حجم المعاناة، ومطالبًا العالم الإسلامي والعربي بالتحرك الجاد لإنقاذ المسلمين في تلك المنطقة، وقد لمسنا منه إلمامًا شاملاً بكل جوانب القضية، ووعيًا عميقًا بتشابكاتها السياسية والدينية والإنسانية.
4. علاقات علمية مستمرة
توالت بعد ذلك اللقاءات والاتصالات بيني وبين الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان، سواء في منزله أو مكتبه أو مقر عمله بالكلية، أو حتى في المسجد. وكنت دائمًا أستشيره في كثير من المسائل المتعلقة بالعالم الإسلامي، مستفيدًا مما حباه الله من علم واسع ونظر ثاقب،
كما كانت بيننا اتصالات دائمة تخص شؤون الطلاب الألبان من كوسوفا ومقدونيا وألبانيا الملتحقين بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، حين كان عميدًا لها، حيث لم يتردد يومًا في دعمهم وتسهيل أمورهم.
الفصل الخامس: الدكتور محمد رأفت عثمان وقضية كوسوفا – موقفٌ تاريخي لا يُنسى
يمثّل موقف الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان من قضية كوسوفا أحد أهم ملامح شخصيته الفكرية والإنسانية، كما يعدّ شاهدًا بارزًا على عمق التزامه بمبادئ العدالة والحرية وحقوق الشعوب المقهورة. فالدكتور عثمان لم يكن مجرد عالم فقيه يكتب في القضايا المجردة،
بل كان صوتًا قويًا في الدفاع عن الشعوب المسلمة المستضعفة، وفي مقدمة هذه الشعوب الشعبُ الكوسوفي الذي تعرّض لواحدة من أبشع المآسي الإنسانية في أواخر القرن العشرين.
لقد أولى الدكتور عثمان قضية كوسوفا اهتمامًا خاصًا، وشغلت حيزًا كبيرًا من فكره وانشغالاته العلمية والإنسانية، إدراكًا منه لعدالة هذه القضية وحق شعبها في تقرير مصيره ونيل حريته واستقلاله. ومع اتّساع دوائر العدوان الصربي، وتزايد المجازر الوحشية التي ارتكبت بحق الكوسوفيين،
كان صوت الدكتور عثمان حاضرًا بقوة في الساحة الفكرية والدينية، محذرًا من الصمت الدولي، وداعيًا الأمة الإسلامية إلى القيام بواجبها الشرعي والإنساني تجاه هذا الشعب.
1. مقاله التاريخي: “جمهورية كوسوفا أرض إسلامية” (25/6/1997)
كان أحد أبرز مواقفه الرائدة تجاه هذه القضية مقاله الشهير بعنوان:
“جمهورية كوسوفا أرض إسلامية”
والذي نشره في 25 يونيو 1997، وهو من أهم الوثائق الفكرية الداعمة لحق كوسوفا في الحرية والاستقلال.
وقد كتب فيه بوضوح وحِدّة تعكس صدقه وإيمانه، فقال:
“جمهورية كوسوفا أرض إسلامية، اغتصب الكثير منها صربيا، الجبل الأسود، مقدونيا. ومن الأحكام الشرعية المعروفة أن أية أرض إسلامية يستولي عليها أعداء الإسلام فإن المسلمين يكونوا مطالبين باستخلاص هذه الأرض من قبضة المحتلين بكل الطرق الممكنة في الجهاد بالمال والسلاح والأفراد… حتى يرجع الحق إلى أصحابه.”
ثم يضيف مؤكدًا مسؤولية الأمة:
“وإذا كان أهل الأرض التي اغتصبها الأعداء لا يستطيعون وحدهم استرداد حقهم المسلوب، فإنه يجب على كل الدول الإسلامية عربية وغير عربية أن تساعدهم بكل وسيلة في استرجاع هذا الحق… فإنه يجب عليهم العمل الجدي القوي على أن تسترجع كوسوفا حريتها وأرضها بعد طرد الصرب المتوحشين منها وتطهيرها من أدناسهم.”
ويتابع موضحًا دور الإعلام والهيئات الدولية:
“إننا نحتاج إلى إبراز مشكلة كوسوفا وإلقاء الضوء عليها في المحافل الدولية… كما نحتاج إلى قيام الإعلام العربي والإسلامي—من صحافة وإذاعة وتليفزيون—بنشر الوعي عن هذه المشكلة، أرض كوسوفية تعرضت للاحتلال من العدو الصربي.”
كما دعا الأزهر الشريف إلى احتضان الطلبة الكوسوفيين:
“وعلى الدول الإسلامية الغنية أن تساعدها بالمال والسلاح… كما على الأزهر الشريف وهو المنارة العلمية العظيمة أن يفتح أبوابه لاستقبال أبناء هذه الجمهورية؛ توسعًا في العلم الديني… ليقوموا بدورهم الحضاري في إعلام الناس بأمور دينهم وحثهم على الجهاد في سبيل حرية الوطن وتقدمه.”
لقد شكّل هذا المقال نداءً قويًا في لحظة تاريخية حرجة، ووجد صداه لدى الشعب الكوسوفي الذي قرأ فيه دعمًا واضحًا واعترافًا صريحًا بظلامته وحقوقه.
2. تقديمه لكتاب: “من آثار العدوان الصربي على كوسوفا”
لم يقف دعم الدكتور عثمان عند حدود الرأي والمقالات، بل امتد إلى المشاركة الفاعلة في التوثيق العلمي للمأساة الكوسوفية. فقد تفضّل بكتابة تقديمٍ مؤثر وعميق لكتابنا المعنون:
“من آثار العدوان الصربي على كوسوفا – شاهد عيان الشيخ عبد الله إسماعيل”
وقد كتب في مقدمة الكتاب كلمات تظلّ شاهدة على قوة بصيرته وصفاء ضميره، ومن أبلغ ما قال:
“إن إرادة الشعوب لا تُقهر، وإصرار الأحرار على أن يعيشوا رافعي الرؤوس لا يمكن إيقافه… وإذا كان الإنسان مؤمنًا بحقه في أن يعيش فوق تراب وطنه حُرًّا أبيًا… فإن أي قوة غاشمة… لا تستطيع أن تُذلّ الشعوب الأبية المؤمنة بالعزة والسيادة، وبنصر الله مهما طال وقت الظلم والطغيان.”
ثم يصف بأسى ووضوح حجم الجرائم الصربية:
“وقد تحمل شعب كوسوفا العظيم الكثير جدًا من بربرية ووحشية نوع من البشر انحطّوا إلى أشدّ الدرجات انحطاطًا… فلم تخضع كوسوفا لوحشية الصرب وحقارتهم التي لوثت تاريخ الإنسانية… وعرف العالم تتار القرن العشرين، وشاهد الشعوب ما فعله البرابرة بشعب كوسوفا الحر.”
ويخصّ كوسوفا بتحية تاريخية خالدة:
“لك يا شعب كوسوفا تحية الإجلال من كل شرفاء العالم… وعشتَ في بلدك حُرًّا، رافع الرأس، قوي الإرادة، مرددًا أناشيد الحرية والكرامة وصلابة الروح التي لا تُهزم.”
ثم يختم بدعاء صادق ونبرة إنسانية عالية:
“إن إرادة الشعوب الحرة لا تموت ما دام فيها دعاة إلى الحق والحرية… فالرفق لشعب كوسوفا، والخزي والعار لبرابرة العصر… وعاشت كوسوفا حرة أبية.”
كان هذا الموقف من الدكتور عثمان بمثابة وسام شرف على صدر كوسوفا، إذ نقل معاناة هذا الشعب إلى العالم الإسلامي بروح العالم الصادق الذي لا يخشى في الحق لومة لائم.
3. أثر مواقفه على الوعي العربي والإسلامي تجاه كوسوفا
أسهمت كتابات الدكتور محمد رأفت عثمان في:
• نشر الوعي بقضية كوسوفا في العالم العربي.
• تحريك الرأي العام الإسلامي للتضامن مع الشعب الكوسوفي.
• تعزيز الموقف الشرعي المؤيد لحق الكوسوفيين في المقاومة والدفاع عن وطنهم.
• توجيه المؤسسات الإسلامية الكبرى—وفي مقدمتها الأزهر—للاهتمام بأبناء كوسوفا.
• إعطاء القضية بعدًا إنسانيًا وأخلاقيًا يفوق الجانب السياسي والعسكري.
وقد كان لهذه المواقف أثر ملموس في تعزيز قوة القضية الكوسوفية في الوعي المصري والعربي خلال التسعينات، ولا تزال كلماته تُستعاد اليوم كوثيقة علمية وسياسية في آنٍ واحد.
4. تقييم عام لمكانته في خدمة قضية كوسوفا
يمكن القول بلا مبالغة إن الدكتور محمد رأفت عثمان كان:
• إحدى أهم الشخصيات الأزهرية التي تبنّت قضية كوسوفا بجدية ومسؤولية.
• صوتًا حقوقيًا مبكرًا كشف جرائم الصرب بجرأة نادرة.
• فقهياً مجتهداً قدّم تأصيلاً شرعياً واضحاً لحق الشعوب المحتلة في تحرير أوطانها.
• داعماً علمياً وتربوياً لشعب كوسوفا عبر دعوته الأزهر لاستقبال طلابه.
• مؤثرًا في صناعة الرأي العام العربي بشأن كوسوفا.
لقد ارتبط اسم الدكتور محمد رأفت عثمان بقضية كوسوفا ارتباطًا وثيقًا، وترك مواقف خالدة لا تُنسى في ذاكرة شعبها.
الفصل السادس: الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان: رؤية عالم أزهري في قضايا البلقان وتجربة التواصل العلمي مع ممثل كوسوفا في مصر
تُعدّ العلاقات العلمية والفكرية بين العلماء المسلمين ركيزة أساسية في تشكيل الوعي الجماعي بقضايا الأمة، ولا سيما حين يتعلق الأمر بالمناطق التي تعرّضت عبر التاريخ لأزمات مركّبة من الاستعمار، والاضطهاد، والتجاهل الدولي، كما هو حال شعوب البلقان عمومًا، وشعب كوسوفا على وجه الخصوص.
ومن بين أبرز الشخصيات الأزهرية التي أدّت دورًا محوريًا في دعم هذه القضايا، يأتي اسم الأستاذ الدكتور/ محمد رأفت عثمان، عميد كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر سابقًا، وأحد أهم الأصوات العلمية في العالم الإسلامي التي وقفت بحزم إلى جانب المظلومين والمقهورين.
وقد كان لقائي به ـ بوصفي ممثلًا لجمهورية كوسوفا في مصر ـ نقطة تحول فكرية وعلمية في مسار التعريف بقضية البلقان داخل الأوساط العلمية المصرية. فالدكتور محمد رأفت عثمان لم يكن مجرد عالم شريعة،
بل كان مفكرًا صاحب رؤية سياسية شرعية، يدرك تعقيدات الواقع الدولي، ويقرأ الأحداث من منظور حضاري ضارب الجذور في التاريخ والفقه الإسلامي.
لقاء الفكر والمسؤولية: لقاء الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي بالأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان
أولًا: أهمية توثيق اللقاء في سياق الوعي بقضايا العالم الإسلامي
لقد دفعني شغفي المهني وواجبي الوطني إلى التواصل مع المفكرين الكبار في العالم العربي، وخصوصًا أولئك الذين حملوا هموم الأمة فوق أكتافهم ولم يكتفوا بالخطاب النظري. وكان الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان في مقدمة هؤلاء.
فالظروف التي مرّت بها كوسوفا، والبوسنة والهرسك، ومقدونيا، وإقليم السنجق، وألبانيا، وما تعرض له المسلمون فيها من إبادة جماعية وتطهير عرقي، كانت تتطلب صوتًا شرعيًا عالمًا وواعيًا قادرًا على مخاطبة الضمير الإسلامي.
ومن هنا جاءت رغبتي الحثيثة في وضع هذه القضايا بين يدي هذا العالم الجليل، ليكون شاهدًا وناطقًا باسم الحقيقة، كما كان دائمًا.
ثانيًا: البعد الثقافي والسياسي للّقاء
في اللقاء الأول بمنزله، شعرت أنني أمام مكتبة معرفية حية، لا أمام عالم فحسب. فالمجلدات كانت تحيط به من كل جانب، شاهدة على رحلة علمية طويلة، واهتمام موسوعي بالفقه وأصوله، وقضايا الفكر الإسلامي.
ودار بيننا نقاش ممتد حول جذور الأزمة في البلقان، وكيف أن صمت العالم الإسلامي شكّل جزءًا من المأساة، وأن المسؤولية الأخلاقية تتطلب تفعيل الدور العلمي والإعلامي في آن واحد.
وقد أدهشني ـ في ذلك اللقاء ـ مدى عمق اطلاعه على تفاصيل قضايا البلقان؛ إذ كان يتحدث عنها بوصفها شأنًا إسلاميًا داخليًا، لا بعيدًا عن الجغرافيا. وهنا ظهر الدور الفكري الحقيقي للعالم حين يربط بين الفقه السياسي الإسلامي وحقوق الشعوب المسلمة.
ثالثًا: أثر اللقاء في المشهد العلمي المصري
لم تمض أيام معدودة حتى بدأ الدكتور عثمان يكتب عن مأساة المسلمين في كوسوفا والبوسنة والهرسك، بلغة تجمع بين الدقة العلمية والخطاب المبدئي الذي يستنهض الوعي الإسلامي. كانت مقالاته صرخة في وجه الصمت،
ودعوة صريحة للعلماء والباحثين والهيئات الدينية كي يتحركوا في سبيل رفع المعاناة، وقد ساعد ذلك كثيرًا في إدراج قضية كوسوفا ضمن الخطاب الإعلامي والدعوي المصري.
ومن خلال هذا النشاط ازدادت مسؤولياتي في التعريف بالقضية، وشعرت أن الجهد الفردي يمكن أن يصبح قوة مؤثرة حين يجد عالمًا صادقًا يتبنّاه.
رابعًا: العلاقة المستمرة ودورها المؤسسي
استمرت لقاءاتي بالأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان في منزله ومكتبه والكلية والمسجد، وكانت كلها محطات غنية بالنقاش والمعرفة. وكنت أستعين بخبرته في كثير من المسائل التي تتعلق بواقع المسلمين،
كما كانت لنا لقاءات تخصّ الطلاب الألبان من كوسوفا ومقدونيا وألبانيا الذين التحقوا بكلية الشريعة والقانون حين كان عميدًا لها، حيث بذل جهودًا صادقة في تيسير أمورهم، مؤكدًا أن خدمة العلم هي في جوهرها خدمة للأمة.
شهادة عالم في حق عالم: كلمة الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان
وفي سياق هذه العلاقة العلمية المثمرة، أدلى الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان بشهادة مهمة حول جهودي في خدمة القضية الكوسوفية، وجاء فيها:
“يقوم الأخ الفاضل الأستاذ الدكتور/ بكر إسماعيل بدور نشط في جمهورية مصر العربية لخدمة القضايا الإسلامية عامة، وقضية كوسوفا على وجه الخصوص، ويعمل بجهده وفكره على أن تكون قضايا كوسوفا والبلقان في دائرة الاهتمام الذي تستحقه في فكر العلماء وأساتذة الجامعات وأهل الرأي.
ويتمثل ذلك في صور متعددة؛ فهو يعمل على إيصال صوته إلى الصحافة المصرية، كما يعمل على مساعدة الطلاب وتذليل الصعوبات أمامهم، ويشغل نفسه بقضايا بلاده، ويسعى إلى التأييد الممكن من أي جهة يراها قادرة على الدعم في كل ما يخدم هذه القضايا ويبرزها بوصفها قضايا وطن يريد أعداؤه القضاء عليه.”
“والأستاذ الدكتور/ بكر إسماعيل يتوافر له من الصفات الشخصية ما يؤهله للقيام بالعمل المنوط به، ونسأل الله له مزيدًا من التوفيق والعون في مهمته الوطنية العظيمة.”
إن هذه الشهادة تمثل ـ في حقيقتها ـ مسؤولية أكثر مما تمثل تكريمًا؛ فهي تأكيد على أن العمل الوطني في قضايا البلقان يتطلب جهدًا مضاعفًا، ورؤية واسعة، وتعاونًا بين العلماء والباحثين والمؤسسات.
نهاية الفصل: تجربة التواصل العلمي مع الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان ليست مجرد ذكريات شخصية أو لقاءات بروتوكولية؛ بل هي جزء من تاريخ الوعي الإسلامي الحديث بقضية البلقان. لقد أثبت هذا العالم الجليل أن الكلمة الصادقة قد تغيّر موازين الإعلام، وأن الموقف العلمي يمكن أن يصبح رافعة سياسية وأخلاقية.
وقد جسّد لقاؤه بي نموذجًا للتكامل بين العمل الدبلوماسي والجهد الفكري، وبين الدور الأكاديمي والمسؤولية التاريخية تجاه قضايا الأمة.
ويبقى اسم الدكتور محمد رأفت عثمان شاهدًا على مرحلة فكرية وسياسية مهمة، لعب فيها العلماء دورًا مركزيًا في إعادة بناء الوعي بقضية كوسوفا، وحفظ ذاكرة الشعوب المسلمة في البلقان.
الفصل السابع: البعد الثقافي والإعلامي والاقتصادي والقانوني والدبلوماسي في فكره
على الرغم من أن تخصّصه الأساس هو الفقه المقارن، فإن آفاقه الفكرية كانت واسعة، وقد أثّر في مجالات متعددة:
1. في الثقافة والإعلام
• كان قلمًا قويًا ومؤثرًا في الصحف العربية.
• قدّم رؤى إصلاحية في قضايا الفكر والتجديد والاجتهاد.
• دعا إلى إعلام يخدم الحقيقة ويكشف الظلم.
2. في السياسة والاقتصاد الدولي
• أكّد دائمًا دور الاقتصاد في حماية استقلال الشعوب.
• دعا إلى بناء نماذج اقتصادية مستقلة للدول الإسلامية.
• ربط بين الفقه الاقتصادي ومبادئ العدالة الاجتماعية.
3. في القانون الدولي والعلاقات بين الشعوب
• كتب في العلاقات الدولية من منظور إسلامي.
• قدّم تصورًا فقهيًا واقعيًا حول حقوق الشعوب المحتلة.
• دعا إلى تفعيل دور المؤسسات الدولية لخدمة القضايا العادلة.
4. في العمل الدبلوماسي
كان صوته مسموعًا في كل محفل شارك فيه، وكان يُعدّ سفيرًا للفكر الإسلامي الرشيد، يتحدث بلغة علمية، دون صدام أو مجاملة، بل بحكمة العالم وصلابة الحق.
الفصل الثامن: علاقتي العلمية والإنسانية به
لا يمكنني أن أتحدث عنه بمعزل عن تجربتي معه، فقد كان:
• أستاذًا
• وأخًا كبيرًا
• ومرشدًا روحيًا
• وصديقًا وفيًا
كنت أزوره بانتظام، وكنت أجد فيه شخصية نادرة جمعت بين العلم الجمّ، والورع، والتواضع. وكانت جلساتنا معه مدرسة قائمة بذاتها في الفقه، وفي فهم الحياة، وفي قراءة الواقع السياسي والفكري للأمة.
ولهذا كان من الطبيعي أن أكتب عنه كتابًا مستقلاً اعترافًا بفضله، وتوثيقًا لدوره التاريخي.
وأخيراً نقول: لقد مثّل الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان نموذجًا متكاملاً للعالم المسلم الذي يجمع بين:
• صلابة المبدأ
• وعمق الفقه
• ونقاء السريرة
• ونصرة المظلومين
• والعمل الدؤوب لخدمة الشريعة
• والانفتاح الواعي على العالم المعاصر
إن سيرته ومسيرته العلمية والفكرية جديرة بالدراسة الأكاديمية الرصينة، وجديرة بأن تكون جزءًا من ذاكرة الأمة.
رحم الله هذا العالم الجليل رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. لقد ترك فينا أثرًا لا يمحى، وفي مكتبتنا تراثًا خالدًا، وفي ضميرنا احترامًا لا ينتهي.
الفصل التاسع: مختارات من أقوال الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي عن الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان
1. عالم يحمل همّ الأمة
“وجدت في الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان عالمًا أزهريًا لا يفصل بين العلم والرسالة؛ فهو يرى قضايا المسلمين جزءًا من مسؤوليته العلمية والأخلاقية، ويتعامل معها بروح العالم المجاهد بالكلمة.”
2. ذاكرة معرفية حيّة
“حين دخلت منزله لأول مرة، شعرت وكأنني أمام مكتبة فكرية تتحرك وتنبض، لا أمام رجل واحد. كان يعيش بين آلاف المجلدات، لكنه في الحقيقة كان يعيش داخل رؤية واسعة للعالم الإسلامي ومعاركه.”
3. نصير حقيقي لقضية كوسوفا
“لم يكن الدكتور محمد رأفت عثمان مجرد متعاطف مع قضية كوسوفا، بل كان طرفًا معرفيًا فيها؛ ينطق بالحق، ويكتب بوعي، ويدافع بشجاعة عن مظلوميتها في وجه الصمت الدولي.”
4. عالم يرى البلقان من الداخل
“أدهشني أنه كان ملمًا بتفاصيل قضايا البلقان كما لو كان من أبنائها. لم ينظر إليها كملف سياسي عابر، بل كجزء من الخريطة الإسلامية التي لا يجوز تركها للضياع.”
5. مسؤولية الكلمة عنده أكبر من حدودها
“كانت مقالاته ولقاءاته تُحدث أثرًا يتجاوز حدود النشر؛ كانت صرخة فكرية تعيد البوصلة نحو الشعوب المنسية، وتُشعل الوعي بقضية كوسوفا في الأوساط العلمية والدينية المصرية.”
6. صداقة فكرية ومعرفية
“استمرت لقاءاتي معه في البيت والكلية والمسجد، وكان كل لقاء يحمل جديدًا من العلم والرؤية؛ فقد كان مرجعًا أعود إليه لاستنير بخبرته في قضايا الأمة.”
7. دعم لا محدود لطلاب كوسوفا والبلقان
“حين كان عميدًا لكلية الشريعة والقانون، فتح أبواب الكلية لطلاب كوسوفا ومقدونيا وألبانيا، وذلّل أمامهم العقبات، مؤمنًا بأن التعليم جزء من تحرير الشعوب.”
8. عالم يقرأ السياسة بمنطق الشريعة
“في حديثه عن أزمات البلقان، كان يربط بين الفقه السياسي والحقوق الإنسانية للمسلمين، ليقدّم خطابًا شرعيًا واعيًا لا يهادن الظلم ولا يتنازل عن المبادئ.”
9. موقفه من كوسوفا موقف تاريخي
“كتاباته عن كوسوفا لم تكن بيانات تضامن، بل وثائق موقف تاريخي لعالمٍ رأى الظلم بعينيه، وكتب بضمير حيّ، ودعا إلى نصرة شعب مظلوم لا يملك إلا صوته.”
10. نموذج للعالم الذي يمزج بين الإيمان والجرأة
“في كل مرة التقيته، كنت أرى فيه نموذج العالم الذي لا يخشى في الله لومة لائم؛ يقول الحق ويتحمل تبعاته، ويقف في الصف الأول دفاعًا عن القضايا العادلة.”
الفصل العاشر: قصيدة الوفاء والرحيل
في رثاء الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان
بقلم: الأستاذ الدكتور/ بكر إسماعيل الكوسوفي
مقدمة القصيدة
لم يكن رثائي لأخي وأستاذي العالم الجليل محمد رأفت عثمان حدثًا عابرًا أو واجبًا بروتوكوليًا، بل كان صوت قلبٍ يحمل امتنانًا لا ينتهي لرجلٍ وقف مع كوسوفا في أشدّ اللحظات ظلمة، وناصر شعبها، ورفع قضيته في المحافل العلمية والإعلامية والدينية.
ومنذ لقائنا الأول في القاهرة، نشأت بيننا صداقة علمية وإنسانية استمرت حتى رحيله، علاقة جمعت بين محبةٍ صادقة ووفاءٍ متبادَل، واشتغالٍ مشترك على قضايا الأمة والبلقان.
هذه القصيدة هي جزء من دين المحبة، وشاهد على ذاكرة لا تنسى، وإضاءة على الطريق الذي جمع قلب عالمٍ أزهريّ بعقل ووجدان رجل من كوسوفا، فكانت بيننا أخوّةٌ وصدقٌ ونور.
القصيدة
يا راحلًا والحقّ يمشي خلفهُ
ويموتُ صمتُ الظلم عند صِباهُ
يا عالمًا حمل الشريعةَ مشعلًا
فتوضّأتْ من علمهِ دُنياها
جئتُكَ من أرضِ الجراحِ مكبّلًا
فكسرتَ قيدَ اليأس في يمناهُ
ومددتَ لي كفَّ النبيِّ رقيقةً
تَسقي القلوبَ وتستعيدُ نداها
مصرٌ رأتْ فيك الضيـاء مُجاهِدًا
والبَلقانُ ردّد: ليتنا نلقاهُ
هذا الذي وقفَ الزمانُ لخطوِهِ
وتعلّمتْ من صدقِهِ فُقَهـاهُ
قال الحقيقةَ لا يُهادن ظالِمًا
ومضى يُدينُ الصمتَ من أعلاهـُ
يا من كتبتَ عن الكوسوفيين دمًا
والحبرُ من حرِّ الأسى يرويـهِ
يا من جعلتَ الأرضَ أرضَ عقيدةٍ
تُثري العقولَ وتستعيدُ بهـا هُداهُ
نمْ في ثرى مصرٍ، فمصرُ بأرضِها
تحنو عليكَ وتستعيدُ سناهُ
قد جئتَني بدرًا فأشرقَ ليلُنا
وبقيتَ في التاريخِ حين طواهُ
وأنا على دربِ الوفاءِ مضيتُهُ
أروي الحكايةَ، ما نسيتُ سناهُ
التحليل الأدبي والنقدي للقصيدة
أولًا: البنية الشعورية والوجدانية
تقوم القصيدة على محورين أساسيين:
1. الوفاء الشخصي: علاقة الشاعر (د. بكر) بالعالِم الراحل علاقة روحية عميقة، تتجدّد في كل بيت.
2. تاريخ مشترك: القصيدة ليست رثاءً فرديًا، بل تأريخ وجداني لدورٍ قام به عالمٌ مصريّ تجاه شعب كوسوفا.
يظهر في القصيدة حضور الثنائيات:
• الظلم / الحق
• الجرح / الوفاء
• الرحيل / البقاء
• اليأس / الأمل
وهي ثنائيات تعكس التجربة التاريخية لشعب كوسوفا وتجربة الأستاذ الدكتور عثمان نفسه.
ثانيًا: الصورة الشعرية
تتميز القصيدة بصورٍ قوية، أهمها:
• “يموت صمت الظلم عند صِباه”
كناية عن القوة الأخلاقية لكلمة العالِم الصادق.
• “فكسرتَ قيد اليأس في يمناه”
صورة رمزية للعون الفكري والإسناد الأخلاقي الذي قدمه الدكتور عثمان.
• “تمدّ كفَّ النبي رقيقة”
استعارة تُحيل إلى الرحمة والعدل.
• “مصر رأت فيك الضياء مجاهدًا”
مصر هنا ليست مكانًا جغرافيًا بل حاضنة حضارية.
ثالثًا: المستوى السياسي والفكري
لا تنفصل القصيدة عن السياق السياسي:
1. العالم المجاهد بالكلمة
القصيدة تبرز الدكتور عثمان كمفكر لم يقف عند حدود الكتابة الفقهية، بل كصوت مقاوم ضد نظام دولي ظالم.
2. كوسوفا كرمز
تحضر كوسوفا رمزًا للأمة التي تعاني، فيما يأتي موقف الدكتور عثمان شهادة على أنّ العلماء الحقيقيين لا ينفصلون عن هموم الأمة.
3. مصر–كوسوفا
القصيدة تعبر عن جسور روحية بين البلدين، تأسست على قيم النصرة والعدل والمروءة.
رابعًا: البنية الإيقاعية
القصيدة مكتوبة بلغة عمودية مع الحفاظ على انسيابية الجمل، واستخدام صور حديثة، ما يجعلها تجمع بين:
• جلال القصيدة التقليدية
• وروح الحداثة في الصورة والتحليل
وقد تم اختيار وزن يتناسب مع موضوع الرثاء ويمنح النص فخامة وجدانية.
خامسًا: شخصية الشاعر في النص
يظهر د. بكر إسماعيل في القصيدة:
• شاهدًا على الزمن
• وصوتًا للأمة
• وصديقًا وفيًا
• وممثلًا لصوت كوسوفا أمام عالم أزهري كبير
إنها قصيدة تشهد على رحلة مشتركة بين عالمين، وليس مجرد رثاء.
وفي الختام نقول: إن هذه القصيدة ليست نصًا أدبيًا فحسب، بل وثيقة وجدانية وسياسية، تعكس عمق العلاقات الثقافية بين مصر وكوسوفا، وتجسد طبيعة الدور الذي لعبه الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان كصوت شرعي وإنساني في الدفاع عن حقوق الشعوب المضطهدة.
كما تكشف القصيدة عن الوجه الإنساني للدكتور بكر إسماعيل: الباحث، والناشط، وصاحب الوفاء الذي لا ينسى من وقف مع شعبه في لحظة تاريخية مصيرية.
الخاتمة
في ضوء ما تقدّم من فصول، تتأكد المكانة الفريدة التي يحتلها الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان في الفكر الإسلامي المعاصر. فقد كان عالمًا واسع المعرفة، رفيع الخُلق، ثابت المبدأ، قوي الكلمة، يحمل ضمير الأمة في قلبه وعقله، ويقف ضد الظلم أينما كان. لم يكن عالم فقه منغلقًا في الكتب،
بل كان شاهدًا على عصره، وفاعلًا مؤثرًا في صياغة الوعي الإسلامي تجاه القضايا الكبرى. وقد مثّلت قضية كوسوفا أحد أهم ميادين حضوره الفكري والإنساني، حيث قدّم مواقف خالدة ستظل جزءًا من الذاكرة الكوسوفية والعربية والإسلامية.
إن العلاقة التي جمعتني به ليست مجرد علاقة مهنية بين باحث وأستاذ، بل علاقة أخوّة ووفاء وتضامن، رسّختها السنوات بمواقف لا تُنسى، وزيارات ممتدّة، ومناقشات علمية عميقة، وجهود مشتركة لخدمة قضايا البلقان.
وقد رأيت، من خلال عملي معه، نموذجًا للعالم الأزهري الراسخ، الباحث المجتهد، والمفكر الشجاع الذي لا يساوم في الحق، ولا يتراجع أمام الظلم، ولا يهادن في القضايا العادلة، ويقدّم العلم في صورته الحضارية التي ترتقي بالأمة وتدافع عن كرامتها.
لقد قدّم الدكتور محمد رأفت عثمان للمكتبة الإسلامية تراثًا علميًا سيظل مرجعًا للباحثين، وترك للأجيال القادمة نموذجًا في الإخلاص والجرأة والمسؤولية. وعلى الرغم من رحيله، فإن أثره باقٍ في كتبه، ومقالاته، ومواقفه، وشهادات طلابه، وفي ذاكرة الشعوب التي دافع عنها.
ومن واجبنا العلمي والأخلاقي أن نواصل دراسة فكره، ونشر تراثه، وتوثيق دوره الفريد في خدمة قضايا الأمة.
رحم الله هذا العالم الجليل رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وجزاه عن الإسلام والمسلمين، وعن شعب كوسوفا، خير الجزاء. لقد عاش عالمًا نزيهًا، ورحل كريمًا، وبقي أثره شاهدًا على زمن كان فيه العلماء حماة الحق وصوت المظلوم.
—————————————-
كاتب الدراسة:
السفير والممثل السابق لكوسوفا لدى بعض الدول العربية
عضو مجمع اللغة العربية – مراسل في مصر
عضو اتحاد الكتاب في كوسوفا ومصر
E-mail: [email protected]









