رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :العقل الغائب

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

إذا وجدت كتابا عراقيا بعنوان” نقد العقل السياسي العراقي” سأعتبرها هدية عام جديد ومعجزته. ستجد” نقد العقل السياسي الشيعي العراقي” للكاتب محمد نعناع، وكتاب” “نقد العقل الدائري” للمرحوم فالح عبد الجبار، وكتاب” “مقالة في السفالة، نقد الحاضر العراقي” للكاتب فالح مهدي.
لكنك لن تجد كتابا لنقد العقل السياسي العراقي. ستجد نقد العقل الفرنسي والالماني والهندي والروسي لكن العقل العراقي محصن من النقد رغم كل الجرائم. لأن العقل ليس المادة العضوية ــــ الدماغ، بل العقل هو المحتوى الفكري والثقافي والعلمي واذا كان هذا فارغاً ، يصبح العقل العضوي كصفيحة نفايات فارغة: أي لا عقل. كيف تكون للاعقل ملامح للنقد؟ هل هناك من يضبط الاستهتار؟ هل يمكن وضع منطقاً للهراء؟
عندما تمارس جماعة جريمة تسمى عقيدة وممارسة ثورية وعندما يمارس الجريمة نفسها حزب آخر أو فرد يسمى مجرماً.
السبب؟ بكل بساطة لا يوجد هذا “العقل” منذ تأسيس الدولة وحتى اليوم. المشروع الأكبر في نقد العقل العربي هو للمفكر محمد عابد الجابري ومعه صادق جلال العظم وعلي حرب وهادي العلوي، لكن لم يقترب أحد من ” العقل السياسي العراقي” كما لو ان هناك اتفاقاً عاماً على انه غير موجود أو شبح.
مصطلح العقل السياسي يستعمل في التحليل ونقد منظومة فكرية تقليدية متوارثة تمارسها النخب الحاكمة في ادارة الدولة والسلطة واتحاذ قرارات بناء على أعراف متداولة أو قوانين أو تقاليد سياسية وأخلاقية تمنح السلطة شرعيتها القانونية والشعبية والأخلاقية.
العقل السياسي بحاجة الى مرجعية فكرية وثقافية وفلسفة ادارة الدولة والسلطة والقيم السائدة وطريقة تحليل الاحداث ومعالجة الازمات والمشاكل العابرة وحتى مواجهة التحولات العاصفة وفي حالات الانقلاب غير الشرعي على النظام السياسي.
العقل السياسي يعني ايضا طريقة الوصول الى السلطة سواء من الشعب او القانون او الوضع الطارئ او النزاهة السياسية من تجارب سابقة. هل هناك أعراف وتقاليد لصناعة القرار بناءً على أهداف وطنية عامة وليست حزبية أو كيانات فرعية؟
كيف يدار الاختلاف في المصالح؟ كيف تحدد الأولوليات؟ هل هناك خطة استراتيجية للعمل لعشر أو عشرين سنة أو حتى عشر دقائق كما هو موجود في علب الشخاط وعلب معجون الطماطة وعلب الشامبو عن كيفية الاستعمال والخزن والرمي الخ؟
أم أن الدولة والسلطة تدار من حاشية متنفذة توظف كل شيء لصالحها بشكل مرتجل؟
كيف يستطيع النظام السياسي او عقله التعامل مع الجماهير ــــــ وهو مفهوم انقرض اليوم وحلت مكانه حشود متناقضة ومتعادية ـــــــــــــــ وكيف يتشكل الرأي العام في مواجهة تحديات عنيفة خارجية أو داخلية؟ مفهوم” الرأي العام” انقرض كالسيادة والثروة والاستقلال والقرار وبدل مفهوم الرأي العام حلّ مفهوم” رأي الحشود” والجماعات الرافضة والمؤيدة والمحايدة والساخطة ومن تلعب مع كل الأطراف. مفهو” الرأي العام” انقرض مع مفهو” الشعب” ونحن كيانات وجماعات وولاءات والخ وهلم جرا.
هل عثر أحدنا يوما ، صدفة، وهو خارج من مقهى أو محراب أو حانة أو سجن أو من حفرة مجاري منتصف الليل على بنية معرفية تتحكم بالنظام السياسي والاجتماعي عدا الأكاذيب والوعود؟
هل العقل السياسي العراقي الأسطوري يملك ما هو ممكن وما لا يمكن حسب القانون والأعراف؟ هل هناك عواقب لخرق قواعد الديمقراطية الحقيقية وفق اقتراع عام؟ هل يستطيع هذا العقل الشبح نقد نفسه بنفسه ولو مرة واحدة في التاريخ؟ وكيف يمكن لعقل متفسخ ان ينقد نفسه؟ بأية أدوات نظيفة؟
كل انقلاب يأتي يلغي كل برامج النظام السابق في المدارس والمؤسسات والاعلام والمعامل والقوانين .كيف يتوازن الانسان على قيم متغيرة بسرعة؟ وكيف عاشت اجيال على انقلابات الستينات المتغيرة في حين ان المناهج والمعايير والقوانين تتغير ببطء وتدرج وهدوء في الدول الديمقراطية بلا هذا البتر الفوري الذي خلق المواطن الخائف والقلق.
هل هناك مدرسة سياسية عراقية بتقاليد سياسية وأعراف في تداول السلطة عبر آليات شرعية غير الصفقات؟
لكي نكون منصفين وموضوعيين هناك مدرسة سياسية عراقية عريقة تدار من شلايتية وسرسرية شوارع يتفقون في مقهى أو خلف حانة على أنقلابات أو اغتيالات . هناك مدرسة سياسية بلغة الكلجية ـــــ المبغى العام ــــــــ عندما تختلف ما تسمى الأحزاب السياسية وخطاب وتهم يخجل منها حتى حثالات الحانات القديمة وشقاوات الشوارع.
هناك العقل السياسي الذي سلاحه كاتم الصوت أو عطب ميكانيكي في سيارة خصم أو سم في عصير أو مفخخة في طريق أو خطف في منعطف وغالباً ما استعملت الاحزاب ” شقاوات ، فتوة” في الصراع السياسي، بل جماعة متخصصة للاغتصاب مع التصوير والنظام السابق من جذر ورسخ هذه المدرسة السوقية ولم يترك قيمة انسانية أو اخلاقية أو دينية إلا وانتهكها وحاشيته المنتفعة المتوحشة صارت اليوم تدافع عن الأمانة والضيافة وحرمة الدخيل يوم عبثت بشعب كامل ــــــــــــــــــ كان أمانة ودخيلاً عند سلطة اجرامية ــــــــــــــــــ وأذلت أشرف الناس، وهذه الشريحة من الحواشي والاقارب والاجهزة ـــــــــــــ من دون تعميم ــــــــــــــــ المجرمة تستحق الحرمان من العمل ومن كل الحقوق المدنية بل المنع من السفر داخل وخارج العراق واذا أمكن عزل هؤلاء البرابرة في مستوطنات بعيدة عن المدن ومحروسة كما فعلت فيتنام منذ عام 1975 نهاية الحرب مع أمريكا مع جماعات عقابا على جرائمهم في جبال فيتنام حيث حرمت قبائل مارست الاجرام ضد الشعب الفيتنامي من كل حقوق حتى اليوم ورفضت فيتنام الرد على كل رسائل منظمات حقوق الانسان وحرم هؤلاء من الوظائف العامة والمناصب الحساسة: الروائي الأمريكي نيلسون داميل الذي اشترك في الحرب الفيتنامية كتب عن ذلك في روايته” أعالي البلاد”.
توجد قبائل فيتنامية عملت مع النظام الفيتنامي العميل وساندته تعيش، الآن، في حالة التهميش والاهمال ومشاعر النبذ ومحرومة من أية مشاركة في السلطة السياسية في كل المستويات وكذلك المناصب الحكومية حتى اليوم رغم نهاية الحرب منذ نيسان عام 1975، كقبائل ” المونتـــــــــجنارد” التي تسكن أعالى الجبال رغم مناشدات دولية كانت الحكومة الفيتنامية تهملها.
أنتجت هذه الأحزاب جيوشاً من المخصيين عقلياً، في اليمين أو اليسار. لو، مثلاً، إختلفت مع يساري عراقي في المكسيك، تجد حملة تضامن معه في أثيوبيا أو شارع المتنبي على طريقة انصر رفيقك ظالماً أو مظلوماً دون أن يعرفك أحد لأن البنية العقلية قبلية بقشرة سياسية باهتة .
لو قام النظام السابق بمجزرة ضد الشيوعيين يصمت الاسلاميون وبالعكس وكذلك لو تعرض الاكراد الى مذبحة يغلس القوميون العرب لأن الأحزاب العراقية تعتبر المجزرة ملكية عقارية خاصة بحزب وليست مجزرة وطنية حتى مجزرة قاعة الخلد في تموز 1979 التي راح ضحيتها أبرياء والجميع في النهاية دفع ثمن هذا العقل السياسي الرث.
فشلت كل هذه الأحزاب في انتاج علماء أو فلاسفة أو أدباء أو موسيقيين،
والانتاج الوحيد هو ببغاوات ملقنة تتصارع كالديكة في معارك هزيلة وصبيانية دون أن تعرف هذه الببغاوات القضية لأن بنية التلقين Indoctrination جاهزة، وهذه ذهنية القطيع والنسخ والاشباه وعقلية القبيلة. وهو قانون يشمل القومي واليساري والاسلاموي والداعشي والقاعدي وكلهم من خريجي مدرسة المحو والاقصاء والقتل والتصفية الجسدية وملكية الحقيقة والشرف والتاريخ وحيازة السلطة كعقار.
هذه الأحزاب في الماضي القريب واليوم تنتج حيوانات ملقنة ومعاقين عقلياً، ونظرة واحدة الى ما وصلنا اليه من كوارث تعطي الدليل القاطع على ذلك.
نحن ثقافة مجترة بلا انتاج معرفة:سياسة بلا ثقافة وثقافة بلا سياسة. عندنا الكثير من العرضحلجية والقليل جدا من المثقفين المنعزلين او المقصيين، وفي زمن التهريج يختفي المثقف ليتصدر المشهد الطبال والمتشاعر والطالع والنازل والنصاب والمنتحل .

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock