رؤي ومقالات

حمزة الحسن يكتب : القادم من الاتجاه الخطأ

ما في بطولة اليوم وانتهى زمن الأبطال القادمين من قلب الليل على ظهور الخيل،لا أحد ينتظر أحداً.
هناك قلة باقية تدافع عن شرف وكرامة أمة وحيدة أمام عنف العالم وهذا انتصارها العظيم تحت سماء مغطاة بطائرات التجسس والاقمار الصناعية. الانتصار الحقيقي الوحيد أن تدخل المعركة ولو بالأظافر لأن شرف هذه المعارك في الغاية وليس في النتيجة فحسب.
حتى في الرواية زال استعمال مفهوم البطل ليحل محله مفهوم الشخصية.
البطل اليوم من يحافظ على قواه العقلية ويتذكر إسمه وعنوان داره،
ويحفظ رقم الحافلة اليومية ويصدق أنه حي. ليس حياً جسديا، بل نفسيا واخلاقياً,
البطل اليوم من يعود في المساء بكامل الأعضاء دون أن يقلص الى أصغر حجم في الطريق ولا يتعرف عليه الأهل.
البطل اليوم من يقوى على الضحك وعلى سماع الموسيقى والاغاني بعد كل هذا الضجيج والدوي والجعير من كل مكان،
ومن يتعرف على نفسه في المرآة،
في زمن صارت الاقنعة وجوها للتحاشي والمصلحة والاحتيال. نحن في مسرح وليس في حياة نؤدي أدواراً عابرة .
عندنا شاعر واحد مات موتا بطولياً ــــــ موفق محمد ــــــ كما عاش ولم يكتب عكس ما يفكر كما هو سائد لذلك جاء الانبهار بهذا الموت البطولي كما لو انه معجزة ان يموت المثقف شريفاً مع أن هذا هو الطبيعي كما تموت النسور فوق قمم الجبال تنزف وصدرها للابدية والريح.
لا بطولة بعد اليوم ولا أحد ينتظر أحداً، عدا انتظار عربة بائع النفط والغاز والفول والشلغم والبوليس السري والراتب والانفجار والكهرباء وسيارات نقل النفايات،
ودفع الفواتير والسفر والهروب وقدوم الجنازات وقضاء الحاجة قبل كسر الباب في مداهمة منتصف الليل.
صار الرواة هم القتلة: من يشاهد اعترافات القتلة على الشاشة في مقرات الشرطة يخاف ولو على حافة الارض من هذا الذئب البشري.
البطل الحقيقي من يخلّص نفسه قبل فوات الأوان ويخوض معركته الخاصة،
حتى النهاية بلا ملل مثل أي طائر عالق في شباك أو حيوان في مصيدة،
دون حساب الخسائر والارباح لأن المصير والكرامة أهم من البطولة.
البطل الحقيقي من يتوجع لهذا القتل الرخيص لشعب برئ لأن الوجع خاصية الانسان السوي والطبيعي وهو اختبار مجاني على العافية النفسية. هناك فصيلة من البشر لا تتوجع لكل الكوارث. هؤلاء مرضى بالوراثة او التربية دون ان يعرفوا انهم مرضى ويسمون الجلافة صلابة نفسية.
البطل اليوم من يشرب قهوة الصباح دون ان يقاتل ثلاثة أزمنة في داخله،
ويتصالح معها مؤقتاً من أجل أن يشرب قهوته بهناءة.
البطل اليوم من يعتصم داخل نفسه ويغوص في أعماقه كثعلب الثلج،
في مواجهة عواصف التفاهة والابتذال، أو كحبة قمح نائمة في أعماق الأرض أو في حذاء فلاح في انتظار مطر لتزدهر وتولد وتتحول الى حقل سنابل.
البطل اليوم من لا يخاف من هاتف منتصف الليل، ومن يخرج للعمل أو في سفر دون أن يتحول سريره الى ملعب للعشاق وصورته على الجدار تحدق بعابر سرير. صارت العفة عملة نادرة. صارت شطارة وذكاءً، البطل من لا يرتجف من انفجار إطار سيارة وقت القيلولة، من يضع حاجزا نفسيا وعقليا وجداراً من أكاذيب وسائل الاعلام وغسل الدماغ عن بعد.
يقال هذه الأيام” إن كل شيء صار عادياً” : كلمة “عادي” صارت تقال لأكثر القيم حساسية في تطبيع علني للتفاهة. عادي كل شيء. لماذا أنت غاضب وساخط وكل شيء عادي. من يقول ذلك أعرف أنك أمام مشوه ومدمن عاهات وماتت فيه الأحاسيس.
أفضل طرق النجاة يقولون في الزمن العادي أن تسلم نفسك حالاً لكل من يطرق الباب،
أن ترفع يديك لكل من يشهر في وجهك مسدس أطفال أو مكنسة أو أنياب أو خطاب أو قصيدة شعر،
والفضيلة في القبول والاستسلام لا في الرفض.
العادي اليوم، يقولون، أن يصبح الحلم شراء هاتف حديث والتسكع في محلات الثياب والاحذية لتجميل الجثة وما لن يجمل من الداخل، ان تطلي القناع وتحافظ على الجيفة الداخلية النفسية ، والذهاب الى أي موعد بدل الفراغ وصداع التفكير وشنو معنى النظافة الجسدية والروحية؟ هذه مودة قديمة وانتهت. لماذا أنت كلاسيكي؟
لا بطل بعد اليوم غير الطنين والضجيج والتشابه والتداخل والتكرار وسبع الليل من يخلص نفسه،
من يذهب الى هذا الحفل التنكري بوجهه الحقيقي ويخرج بلا صدع او بقع.
كانت هناك بطولة يوم كانت هناك بيئة
وثقافة رصينة وعفة وعزة نفس وتضحية واخلاص للذات ومعايير تفصل وتعزل بين العادي الرخيص والمبتذل وبين البريء والنظيف. عندما يصل الانسان مرحلة الابتذال لا يفرق بين الوجود الحقيقي والوجود الزائف لانهيار المعيار.
عندما تقول لأحد ما: ” كيف تقول وتكتب شيئاً و تفعل عكسه؟”
الجواب جاهز كعلامة شرطي المرور في الوقوف:
” هذا ما يفعله الجميع: كل شيء صار عادياً عندنا. من أي إتجاه أنت قادم؟”
” من الاتجاه الخطأ ، من السراب، حيث لا أحد يتوقع قدوم جوقة أطفال منشدين ولا علامة نقية في هذه الصحراء”.
هذه هي مرجعية الناس يوم كانت هناك بطولة حقيقية، والمثل العليا كالنقاء الداخلي والصدق والوضوح والجمال وهي مبادئ لا تسقط بتعاقب الزمن كالعادات المتغيرة،
كما لو أن السقوط يحتاج فلسفة تبرره.
البطولة ليست استعراضاً جسدياُ ونفخاً مقرفاً بذات خاوية تحتاج الى إطراء كشحاذ بل هي اللطف والرهافة والوضوح والصدق والنبل والتواضع والعلم والمعرفة وأن يكون الانسان كما هو في الداخل والخارج والمكاشفة والمغامرة الفكرية و اعادة بناء الذات المنفية المستلبة المصنّعة الملفقة.
البطولة بهذا المعنى لا تحتاج الى ثمن باهظ لأنها الخيار الأسهل حتى لو كان بأغلى ثمن، الانحدار هو الثمن الباهظ .
صارت حياتنا كمسرح تهريج يصعب الفصل والعزل فيه بين الجمهور وبين النص، بين مقاعد المتفرجين وبين منصة السيرك،
وبعد زوال الفوارق تصبح العفوية والبراءة والذوق والحساسية جنوناً وانتحاراً وغباءً وعصاباً نفسياً. لماذا لا تندمج وترتاج لأن الناس تعاقب المختلف ولا تعاقب المتطابق والمتشابه. قال الفيلسوف جاك ديريدا:
” أنا مدين للعصاب النفسي لأنه أنقذني من الاندماج بالقطيع”
من يستطيع أن يقول ذلك فينا بلا أن تدق طبول الردح ــــــــ حتى من ما يسمى: المثقفين ونحن لا نفرق بين المثقف وبين المتعلم ـــــــــ ويتحول أي مسخ وأنقاض منسي من نفسه ولا يعرفه زبال المنطقة الى خبير في علم النفس والتشخيص عن بعد بلا فحص ولا عيادة ولا سؤال ولا تحليل بول او دم؟
حتى الحقوق الطبيعية ـــــ وليست السياسية ـــــ كالحق في الصحة والمرض والعزلة والألم والقلق وغيرها تتحول في عرف نفايات ثقافية الى عورة ومعارة ونقص، لكنهم لا يكفون عواءً ونباحاً عن الحرية؟ عن أية حرية يتحدث هؤلاء الثُول الاغبياء كتاب الخواطر الانشائية المدرسية الباهتة؟ من لغة الكتابة تفهم ان هؤلاء لم يقرأوا كتاباً واحداً في الفكر الحديث.
“خيانة المثقفين” معروفة كما شرحها جوليان بيندا وأدوارد سعيد ولينين وغرامشي وتروتسكي وعلي حرب وغيرهم. لكنها عندنا في صحراء الوعي تتحول الى ثقافة ووجهة نظر.
بدل البطل الحقيقي جاء الارهابي والذباح والنصّاب ــــة، وبدل الاخلاص جاءت الخيانة في كل زاوية، بدل التضحية جاء الاحتيال: اذا لم تسرق أنت، سيسرقه غيرك. لا شيء بلا لغة تبرره حتى القتل.
كل شيء يُبرر ولا جريمة بلا تبرير، كل شيء يبرر واللغة السلاح الجديد للخداع الذاتي.
السنا في الزمن العادي الذي تتغير فيه المفاهيم والأشياء ويصبح كل شيء
يشبه كل شيء بلا حدود وبلا التزام وبلا ندم؟ حاول أن تفرح وتبتسم ودعك من قتل الأطفال . اكتب عن الطيور والازهار والحقول والمطر ودعك من حكاية شعوب هاربة كالطرائد تبحث عن مأوى. اكتب عن ذلك حتى لو كنت تجلس أمام بحيرات دم ودموع ورماد ومقابر. ليش أنت حزين؟
كيف يحدث الندم والوجع والتضامن اذا كانت قيم الصفاء التي تحفظ سلامة الخطوة كالبوصلة منهارة؟
هل هناك من يلاحظ كيف تلاشت واختفت قصص التضامن والنخوة والتضحية والعون بلا مقابل والحب والبراءة وكيف صار من يتحدث بها إن وجد من المخلوقات المنقرضة القادمة من زمان منقرض بل يحتاج الى علاج لأن المجتمع المريض لا يتسامح مع الأصحاء بتعبير أريك فروم؟
صار الحديث اليوم عن من يصنع عبوة ناسفة أهم من يصنع فكرة او ثقافة
ومن يزرع سيارة مفخخة أهم من الحديث عن من يزرع حديقة ورد،
والتسكع في محلات الألبسة والاحذية أهم من الذهاب الى المكتبات والحدائق: ألسنا في الزمن العادي،
الزمن المبتذل الذي تحتاج الى طاقة كبيرة لإحتقاره او الصمت عليه، ليس لأنه غامض أو معقد بل لأنه تافه وتداخلت فيه القيم والقيم المضادة تداخل أنياب الكلب؟.
كل شيء يروح بالغسيل، يقولون، القتلى والحقائق والتاريخ والضمير و” إنسى الدنيا وريّح بالك”. ألم تسمع أغنية محمد عبد الوهاب؟
أو في الأقل أغنية نانسي عجرم” قل تاني كدا” بدل صداع الرأس وقراءة أدونيس ومحمد عابد الجابري ديكارت العرب أو نجيب محفوظ ومشاكل طه حسين وخلافاته .
نحن في زمن الأغنية الأفقية في السرير وعلى السلالم لاظهار المستور ولا حاجة للكلمات وخلف المطرب جوقة عازفين كقردة ترقص في حين كان رياض السنباطي يكاد يموت فوق العود نهاية العزف وأم كلثوم تعصر منديلها كقلبها وعبد الحليم ينزف خلف الستارة مع طبيبه الخاص. ألم يقل الشاب خالد” ددي، ددي، ددي” وصارت أشهر من ملحمة كلكامش؟
أنت قادم من الإتجاه الخطأ. من الزمن الخطأ المنقرض. زمن الغابات والبراري والحقول المضيئة، زمن الرعاة الذين تلمع خناجرهم تحت ضوء القمر، الى هذه الصحراء النفسية الصفراء الشاحبة كالزعفران. ألم تقرأ قول كافكا:
” خجلت من نفسي عندما أدركت، أن الحياة حفلة تنكرية، و أنا حضرتها بوجهي الحقيقي”؟.
حتى لو اشتعلت فيك نيران الداخل، لا تخبر أحداً أو قل : “هذه حفلة شواء”.
أو قل كما قال الشاعر إيميه سيزار :
“عزلتي حاضرة أصلاً فليحرقها من يحرقها”.
من يدخلها إما يحترق أو يضيء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى