كتاب وشعراء

غرباء على حافّةِ احتمال….قصة قصيرة بقلم زكريا شيخ أحمد

في مساءٍ تائه بين خريفٍ ناعم و صيفٍ منهك… كنت عائدا من العمل بوجهٍ يعرف الحزن أكثر مما يعرفني. ذلك الوجه الذي يرتديه المرء حين يعجز عن تفسير اختناقه فيسند ضيقه إلى “التعب” بكل وقاحة.
جلسَتْ أمامي.
امرأة كأن وجهها صنع من بياض المدن الاسكندنافية: شفّاف، بارد و مربك.
كانت تضع شالاً بلون الرماد، لا الرماد الذي خلفه حريق، بل رماد يشبه غبار النسيان في متاحف الأرواح القديمة.
كانت تنظر ثم تُطفئ نظرتها سريعاً كمن يتراجع عن حبٍّ لم يكتمل في قلبه.
تبتسم… أو تدّعي ذلك و ما الفرق؟
كأنها تحاور شيئاً داخلياً لا يصلح للنطق، شيئاً يتكوّر عند الحنجرة ثم يعود أدراجه إلى صدغها المائل.
لم نتبادل حرفاً .
لكنني شعرت أنها تعرفني… كأنها كانت في مقعدٍ مقابل في كل القطارات التي لم ألحظها فيها.
ثم… جاءت الأخرى.
امرأة ألمانية، مشرقة بوضوحٍ مفرط تشبه المناخ نفسه حين يقرر أن يتحدث بلا سحاب.
اصطدمَتْ بي بمرفقها، فاعتذرت.
قلت: “لا بأس”
و كان في قلبي بأسٌ لو قُدَّ لعُصر منه غيم، لأمطر على شكل ندم.
قالت إن الطقس في ألمانيا محيّر.
أخبرتها أنني أخرج بقميص صيفي لأحتمل برد الصباح … فقط كي لا ألعن المعطف في ظهيرةٍ خدّاعة.
ضحكت.
ضحكة واضحة كأنها عكس تلك المرأة الأولى:
بساطتها كانت أشبه بنهرٍ يشرح نفسه دون استعارات.
تحدثت عن إسبانيا و رحلتها مع صديقها المفضّل إليها ، عن الريح التي تحمل الشمس على ظهرها مثل طفل مدلّل.
و كنت أنا… منقسماً.
نصف وجهي لها
و نصف قلبي مختبئ تحت رمش الغريبة الأولى التي لا تزال تبتسم بصمتها الطويل.
و لما التفتُّ إليها…
كانت عيناها تنضحان بشيءٍ يشبه الغيرة أو العتب أو الخذلان من مشهد لم يكن لها أن تراه…
رغم أننا لم نكن شيئاً… على الإطلاق.
لحظتها فقط أدركت أن اللقاءات العابرة لا تعبر دائماً.
وأ نّ الصمت … حين يتشبّث بنظرة يفعل بالقلب ما لا تفعله الحروب بالنهايات.
نهضتْ بخفّة امرأة تحترف الخسارة.
مشت نحو باب القطار و كأنها تفرّ من احتمالٍ فضح نفسه.
و قبل أن تغيب…
استدارت.
نظرتها الأخيرة لم تكن كسابقاتها.
كانت كصفعةٍ ناعمة…
كأنها تقول:
“كنت شيئاً لي، فخذلتني بصمتك.”
لم تقلها.
لكنها زُرعت في صدري كصليبٍ حجري لم تعرف يداي كيف تُنزله.
شعرت بالذنب.
كأنني خنت غيمةً اختارتني من بين السحاب ثم تركتها تمطر وحدها فوق قاراتٍ لا أعرفها.
و مع غيابها…
غاب جزءٌ منّي لم أكن أعلم أنني أملكه.
صار حديث الألمانية دافئا ، لكنه بلا طعم…
كقهوة نُسيت على الطاولة حتى بردت و فقدت هويتها بين السطور.
لم أعد أذكر ما قلناه،
لكنني أتذكر جيداً ما لم يُقال بيني و بين تلك الغريبة…
تذكرت كيف تركت مقعدها خلفها كأنها تترك جُرحاً مفتوحاً على طاولة انتظار.
و حين نزلتُ…
نظرتُ إلى المقعد كما ينظر مسافرٌ إلى نافذةٍ مغلقة لم تطل عليه أبداً.
غادرت.
كان كل شيء صامتاً…
إلا قلبي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى