كتاب وشعراء

سيميائيات الظاهر والباطن في “عيون القلب” لليلى مهيدرة خليفة بباهواري – المغرب


سيميائيات الظاهر والباطن في “عيون القلب” لليلى مهيدرة
خليفة بباهواري – المغرب
مقدمة

يأتيك العمل عندما تمارس عليه عملية النقد من حيث يدري هو ومن حيث يعلم هو ومن حيث يريد هو وربما من حيث لا تدري أو تريد أنت، أو لربما من حيث تتواطأ معه كقارئ وكفضولي مرحبٍ به. ويكون إتيانه بمعنى قدومه وبمعنى تناوله عندما تسطع فيه وتلمع من خلاله علامات تقودك إلى مساءلته من حيث ترغب أن تُسائِله !
عند كل حديث لي عن السيميائيات، أعود دائما إلى منطلقيها الأوربي مع فرديناند دي سوسور والأمريكي مع شارل ساندرس بيرس. معتبرا أن مشروعَيْهما السيميولوجي والسيميائي قد تمت خيانتهما معرفيا وابستمولوجيا من طرف تابعِيهما. هذا لا يعني أن هؤلاء التابعين قد أساؤوا إلى العلم الجديد، بل فقط أنهم طوروه في اتجاه لم يسمح بتطوير رؤية الرجلين، الشيء الذي كان سيعطي نتائج أكبر انفتاحا على العلوم الموازية عوض جر السيميوطيقا (وهو التوجه الأخير بعد توقف المشروع البارطي) إلى مزاحمة علم المعاني (sémantique) من جهة وعلم السرديات (narratologie) من جهة أخرى.
في بحث مطول سيصدر إن شاء الله في كتاب يحمل عنوان “Principes et éléments de sémiolinguistique ” طورت المقاربة السيميولسانية التي اعتمدها باتريك شارودو (Patick Charaudeau) وحاولت تطعيمها بأدوات إجرائية تقارب الشكل والمضمون، من جهة، والعلامات اللسانية والغير لسانية من جهة أخرى، خدمة لهدف أبعد يرتبط بالمعنى أولا ثم بالتأويل ثانيا.
وسأحاول تطبيق ما وصلت إليه من استنتاجات عند مقاربتي النقدية للمجموعة القصصية “عيون القلب” لليلى مهيدرة، حيث سأعمل على مقاربة العمل من خلال أطرافه معتمدا على علامات الابتداء والانتهاء وعلاقاتها بالمضمون القصصي. ثم على مقاربة البنيات التقابلية للشخصيات من خلال مستويين تعمَل من خلالهما الشخصيات على خلق تقابلات بنيوية معينة.

1- الابتداء والانتهاء:
نبدأ بفرضية حول توجه الكتابة انطلاقا من الأدوات الكلامية المستعملة. في البداية نسائِل مطالع النصوص وفي مقابلها نهاياتها وخصوصا العلامة الكلامية الأولى والعلامة الكلامية الأخيرة (هذه الأخيرة ستكون أطول). يمكن أن نعتبر النص/المجموعة علامة واحدة مكتملة ومتكونة من “تحت-علامات” (sous-signes)، ويمكن أيضا في مستوى آخر أن نعتبر كل نص/قصة علامة تتكون بدورها من “تحت-علامات” بمستوى أصغر من السابقة. مع العلم أن التعريف “السوسوري” وما وازاه عند “بيرس” وكذا ما تبعه عند “بينفنيست” و”هيلمسليف” ثم عند “بارث” توقف عند العلامة في مستوى الكلمة أو “المونيم” على أبعد تقدير. لكن الباحثين الذين أتوا من بعد والذين غيروا مستوى البحث ومناهجه وكذا ميادينه رأوا أن العلامة يمكن أن تتجاوز ما وقف عنده السابقون.
نجد أن النص الشامل أو النص-المجموعة ينفتح على نفي في بدايته ومطلعه. وكأنه ينطلق من رفض مسبق لشيء غير معلوم ولكنه يؤسس لموقف ضد شيء ما وسنتأكد إن كان هذا الافتراض صحيحا. ” لم يخبروه بأن الحرب انتهت أو ربما اخبروه ونسي” تقول القاصة في مطلع النص. تفتتح مجموعتها ب”لم” التي هي”حرف نفي وقلب وجزم”. تنفي عمل الفعل وتقلب مضارعه إلى ماض وتجزمه مانعة عنه حركته الإعرابية الأصلية. الغريب هو أن كل ما وقع لفعل الإخبار في مطلع النص وقع للشخصية الرئيسية. منع من الهجوم وانقلبت بطولته إلى ذل يطارده ويطارد رفيقة دربه، وبذلك ثم نفي البطولة عنه لدرجة تم معها اعتباره خائنا.
تُعزز فرضيتَنا نهايةُ النص بكلمة “اندثر” التي توازي عمل النفي الذي قام به حرف النفي والقلب والجزم “لم”. جاءت الكلمة الأخيرة بسلبيتها في سياق كان من الممكن أن يصير إيجابيا لو لم يكن في سياق تمني تَمَّ التعبير عنه بصيغة الإيمان. ” بالنسبة له الأمر سيان فهو لم يعد يميز بين المسافات، ما زال صوته عاليا وعيناه زائغتان بين الأوراق المترامية فوق الطاولة وبين نظرات زوجته الشاخصة والتي بدأت تؤمن أن النصر آت لا محالة ومعه فرج قريب قد يعيد مجدا اندثر.”
هذه الوقفة دفعنا إليها كون غالبية النصوص-العلامات، وعددها سبعة وعشرون نصا قصصيا، تبتدئ بفعلٍ، بينما يتحقق الاستثناء في تسعة نصوص. الغريب أنه رقم يشكل الثلث. وكأننا في قسمة محسوبة. لو تركنا عالم السيميائيات للحظة وولجنا عالم التحليل النفسي أو على الأقل عالم النقد النفسي (psycho-critique) لخلصنا إلى تأويل مفاده أن الفعل في منظور الكاتبة يشتغل على ثلثين ولغيره الثلث، وكأننا، إذا أردنا أن نسير بالتأويل بعيدا، نجد صيغة “للواحد حظ الاثنتين”. وسنبحث أيضا على مدى جدية هذا الافتراض التأويلي.
إذا عدنا إلى مقاربتنا السيميائية نجد أن النصوص التي لا تبتدئ بفعل كان النصيب الأوفر فيها للحروف بينما انطلق نصان فقط في محاوراتهما السردية من اسمين هما “قدره ” في نص “قلم أحمر” و”الزيارة” في نص “غرفة الصمت”. وكأن الاسم ممنوع في مجال التداول عند المطلع النصي عند ليلى مهيدرة إذ يرافقه “قلم أحمر” ونعلم سلطة هذا اللون من الأقلام، ويرافقه أيضا “غرفة الصمت” وهو ما لا حاجة إلى توضيحه. بالإضافة إلى أن الاسم الثاني تبعه مباشرة نعت “ممنوعة” ليؤكد على الاستثناء.
نربط هذه الملاحظة، قبل أن نعود إلى البدايات السبعة الأخرى، بشبه غياب لأسماء الشخوص في قصص المجموعة  وبالمقابل بغياب أي فعل عن عناوين النصوص المكونة للمجموعة وبالحضور الحصري للأسماء سواء كانت اسما منفردا أو مضافا إليه أو معطوفا عليه (في حالة واحدة هناك عنوان عبارة عن ضمير منفصل).
البدايات السبعة الأخرى، إذن، اعتمدت على الحروف لتصدير البداية السردية وهذه الحروف هي “لم” مرة ثانية و”لا” و”عندما” و”بينما” و”لطالما” و”لَكَم”. حسابيا، تأخذ حروف النفي ثلث هذا الثلث، وكالسابق شقين ل”لم” والثالث ل”لا” وكأننا في نفسق السياق الحسابي الذي أشرنا إليه أعلاه.
الحروف الأخرى ارتبطت بالزمن وهي ثلاثة أيضا: “عندما” و”بينما” و”لطالما”؛ وتدخل هي أيضا في لعبة الثلثين والثلث؛ مع العلم أن ل”لطالما” وضعا إعرابيا يتميز عن ظرفي الزمان “عندما” و”بينما”. من جهة نجد تعبيرا عن الزمن ومن جهة أخرى نجد النفي القاطع للفعل وكأنه لن يحدث شيء؛ وهو ما وجدناه في القصة الأولى “خطة التراجع عن قرار التراجع” حيث يتم التراجع عن قرار التراجع وكأننا مع نفي النفي نؤكد النفيَ. تقول القاصة:
“لم تعد زينب تبكي من الأمر وفقدت القدرة على الكلام إلا للضرورة القصوى وصارت لا تجيد إلا الاستماع إلى حكايات زوجها عن الحرب والانتصار والانهزام وهو يرسم خطة التراجع عن قرار التراجع حتى صارت هي الأخرى تؤمن بها دون أن تدري. اقتربت منه أكثر وجلست إلى الطاولة بإصغاء تام.”
وفي قصة “قلم أحمر” نجد نوعا آخر من النفي يشبه أيضا الهزيمة. تقول القاصة:
“كان هذا جواب العم إبراهيم ، مناضل سياسي قديم ومعارض بمرتبة شرف لسنوات خلت، نجح في خلخلة أحزاب ومجالس وفشل في الأخير في أن يثبت أمامهم صحة قواه العقلية”.
وفي قصة “الدولاب” يأخذ هذا النفي شكلا آخر تضيع معه كل الأشياء وتنكسر معه رجلٌ في مقابل إرث “استعماري قديم وزائف”. تقول القاصة:
“باع أشياء كثيرة يومها ودق أبوابا أكثر ليعود به آخر الليل على ظهره، كان انتصارا، وضعه بقوة، تكسرت إحدى أرجله سقط، فقد توازنه وسقط هو الآخر. كاد أن يضحك لولا الألم، يذكر يومها أنه رقد لمدة شهر، وقدمه بالجبس ألم أقل لك أن حكايتنا واحدة قالها وهو يصلح الرجل المكسورة..
مضت سنوات بعد ذلك وأزمات اضطر إلى بيع أشياء كثيرة، إلا هذا الدولاب”.
ويصبح هذا النفي هزيمة “صحية” أمام المرض بعدما كان أمام كل شيء حتى السماء، كما يأتي ذلك في قصة “رصاصة الرحمة”:
“لا أدري لم أحسست أن السماء قريبة اليوم، ربما لأني ظُلمت كثيرا، وربما لأنها قررت أن تنطبق علي هي الأخرى لتريحني من عذاباتي. تسللت لفراشي كمحاولة للهروب من الوخز الذي بدأ يمارس لعبته المفضلة في تقليص عضلات صدري… رغم أن كلام الطبيب كان مطمئنا إلا أني لم ألحظ ذاك التحسن الذي تكلم عنه، فالوخز ازداد أكثر من أي وقت مضى. غريب أن يستوطن المرض جسدي كل هذه المدة ولم أشعر به قط، وكم هي الأشياء التي تبدو دائما على غير ما هي عليه.”
يأتي النفي على شكل ضياع في قصة “بلاغ عن طفلة ضائعة”. تقول القاصة:
“تذكر زوجته… يخيل أنها لم توجد في هذه الدنيا إلا لتهب له هذه الطفلة وتموت بعد ذلك… وبما أنه كان يحبها فقد قرر أن يتخلى عن حلمه الكبير وأن يجود بحياته من أجل هذه الطفلة. تذكرها… التفت إليها ليقبلها كما يفعل كل مرة…. لكن… أين هي؟  وقف، صاح، ثوان كانت كالجبل… لم يدرك منها شيئا سوى أن ذلك الأمل الذي كان يسير خلفه قد اختفى… لم يكن ما ضاع حلما… كانت ابنته… جرى في كل اتجاه ناداها بأعلى صوته.”
ننظر الآن إلى خواتيم النصوص-العلامات محاولين تطبيق فرضيتنا عليها. نجد أن الاختلاف كبير بينها وبين البدايات، إذ أن هناك تنويعا كبيرا لنوعية العلامات-الكلمات التي “تقفل” كل نص. يبدو هذا شيئا بديهيا ومنطقيا على اعتبار تكون الجمل. لكن الانتباه يجب أن يصب في اتجاه المضامين بموازاة مع النوعية الإعرابية للكلمات والجمل التي تنتهي بها النصوص.
كما النفي الذي رافق بعض المطالع، سيطر على الخواتيم حضور سلبي مواز للنفي المشار إليه أعلاه. واتخذ أشكالا مختلفة كاختلاف العلامات:
فالنص الأول تُذَكِّر خاتمته باندثار المجد رغم أنها تعبر عن تَمَنٍّ ورجاءٍ يتحدث عن الفرج. وبعده يأتي النص الثاني بنهاية تعيد إلى الغفوة. والثالث إلى نفي الكينونة: “وينطلقون في رمشة عين كأنما لم يكونوا أبدا”. فيما يحيل الرابع على خطأ طبي. بينما الخامس يقول: ” لتتحول ضحكته إلى نار تلتهمني قبل أن تلتهمه والأوراق”، ويرد عليه النص الموالي بقول القاصة: ” والتي زادت التهابا بعد أن لامست الورق الممزق لتحرقه والباقي من الأمل” كأنهما يشتركان في الآثار السلبية التي تحدثها النار.
كما انتهت بعض النصوص بتعبير عن الشك في وقوع الأمر الإيجابي المنتظر كما هو الشأن بالنسبة لنص “خطوط عمودية” الذي ينتهي ب” فربما قد يعود إليه يوما ما” ونص “ضيفة العيد” الذي ينتهي ب”بعد أيام جاءني اتصال منها وأيقنت أنها بخير… ربما.” ونص “غرفة الصمت” الذي ينتهي ب” لقد ناديتك وحسبي أنك قد سمعتني.” ونص “طفل صغير” الذي ينتهي ب” لو يستطيع، لارتمى في حضنها ولعاد طفلها الصغير من جديد ولو لآخر مرة في حياته.” نهايات تنم عن حضور واع أو غير واع لفكرة الشك والإمكان والاحتمال وهي فكرة قريبة في تجليها السلبي لفكرة النفي التي تحدثنا عنها سابقا. خصوصا وأن تيمات النسيان والهروب تعود بشكل ملحوظ كما هو الأمر بالنسبة لنص “العودة إلى الماضي” الذي يسد أفقه مرتين عندما يغلق أفق القصة، مرة بقرار الاستسلام والأخرى بالعودة إلى الماضي” كما تقول القاصة: ” فقد قررتْ أن تستسلم دون استفسار، والحكم هذه المرة أن تعود أدراج الماضي “. أو كما هو الأمر بالنسبة لنص “مملكة الأحلام” حيث تؤكد القاصة: “لم تكن تلك حقيقتي …. كان هروبا من واقع أمرّ من واقعك”. أو كما هو الأمر أخيرا في قصة “غرفة الانتظار” حيث جاء: “ففي نهاية المطاف الأمر ليس مزعجا مادام قادرا أن ينسيني آلامي للحظة”.

2- البنيات التقابلية للشخصيات.

عند التعامل مع النصوص السردية “الواقعية” من قصة ورواية وقصة قصيرة جدا، يجب أن نعيد صياغة المعطى السيميائي للشخصية الذي بناه “غريماس” انطلاقا من اجتهادات “بروب” حول البنيات الحكائية والتي أسس لها الشكلانيون من جانب و”باختين” من جانب آخر، عند هذا التناول يجب تقليص هامش “العامل” حسب التسمية الغريماسية” و”البروبية”. فالشخصيات كبنيات سردية في الأعمال الواقعية لا يمكن أن تتجاوز الإنسان كدال ومدلول يساهم في بناء الحبكة الحكائية.
وبما أننا بصدد تناول مجموعة قصصية شخصياتها الأساسية والثانوية كلها شخصيات “واقعية” فإن تعاملنا معها سيكون على أساس أنها “عوامل” لا تأخذ كل التعريف “الغريماسي”، بل تكتفي منه بالكينونة البشرية. ولن نحاول هنا الوقوف عند كل التجربة السيميائية بل سنكتفي بطرح قضية “البنيات التقابلية للشخصيات” من خلال مجموعة “عيون القلب”.
هناك مستويان للتعامل: الأول بين الشخصيات المكونة لكل نص على حدة؛ والثاني بين الشخصيات الواردة في المجموعة كلها.

المستوى الأول:

يأخذ التقابل في بعض القصص شكل توافق غير معلن وغير مقرر له كما في قصة “تخيلات” حيث تحقق”هي” التماهي فيه “هو” كما تشير إلى ذلك القاصة: “ومع هذا تظل بقربه تكاد خطواتها الصغيرة تهرول لعلها تدرك شغفه للمكان. آمنت أنها مجرد جزء من هذه المدينة التي يعشقها إلى درجة الجنون، ومع ذلك هي راضية. قوة السائح بداخله أكبر من أن يلمح العيون الصغيرة التي تتبعه وتدمع فقط لأنها حققت أمنيتها برؤيته ولمس يده”. تَماهي من نوع آخر يشكله الصبر والإيمان بمسئولية الزوجة في قصة “خطة التراجع عن قرار التراجع” تقول القاصة: “لم تعد زينب تبكي من الأمر وفقدت القدرة على الكلام إلا للضرورة القصوى وصارت لا تجيد إلا الاستماع إلى حكايات زوجها عن الحرب والانتصار والانهزام وهو يرسم خطة التراجع عن قرار التراجع حتى صارت هي الأخرى تؤمن بها دون أن تدري. اقتربت منه أكثر وجلست إلى الطاولة بإصغاء تام..” ويأخذ أيضا شكل تفهّم لظروف الآخر وتقبل واقعه ولو كان فيه خبل أو جنون، كما في قصة “خطوط عمودية” التي جاء فيها ” أكملت سيري محاولة عدم زعزعة مرسمه.. فربما قد يعود إليه يوما ما”.
هذا التماهي يأخذ طابعا غير عادي عندما يربط بين شخصية وشيء “شبه مشخصن” كما هو الحال في قصتي “دولاب” و”قلم أحمر”. جاء في القصة الأولى: ” طرح السؤال وكان قد أجاب نفسه عليه أنا سأشتريه… لن أمنح هذا المستعمر فرصة أخذ دولاب كهذا معه، قد يحمله فوق سيارته فهو صغير الحجم لن يكلفه الكثير. أحس أن مصيره قد ارتبط بهذا الدولاب، إنها مسألة كرامة، يكفيه ما نهب من خيرات البلاد، لن أسمح له بحمله معه  فهو مصنوع من خشب بلادي وبمهارة ابن الحرفة، إنها كرامتي، طريقتي في الحرب.” وتطرقت الكاتبة في القصة الثانية إلى أن صعوبة العلاقة لم تمنع من استمرار التماهي، فقالت: ” قدره أن يحمل هذا الجبل بين أصابعه، قلما أحمر يريد من خلاله إعادة رسم هذا العالم ومحاولة تصحيح أوضاعه وضبط توزيع الثروات كما يجب أو لنقل كما يخيل إليه، فكل مشاكل العالم سببها غذاء وافر على طاولة ضخمة وصحن فارغ في مكان ما، ولعادة ما نجح في إعادة تشكيل الكرة الأرضية اقتصاديا، وإن كان يفشل دوما في تحقيق المعادلة الصعبة في فكره وتجاوز الخط الأحمر الفاصل بين النظريات وإخضاعها للواقع المعاش، تجربة عانى منها كثيرا وما زال يعاني وثقل القلم الأحمر بين أصابعه ما كان ليؤلمه وإن لم يستطع من خلاله أن يرسم له جوارب جديدة تقي أصابعه برودة طقس السنين ورغم ذاك وما دامت المعادلة قد تحققت على الورق وقبلها في مخيلته وفكره فلا شك أنه يستطيع أن يسقطها على واقعه المعاش. لكن كيف؟”
في مقابل هذا النوع من العلاقات الإيجابية ترتسم بين بعض الشخصيات تقابلات سلبية، تبدأ باللامبالاة كما يقع مع أبناء حسام في قصة “خطة التراجع عن قرار التراجع”: “لا تهتمي بهم، هم أناس لا يفقهون من الأمر شيئا. هكذا أجابها ابنها الواعي المتعلم، كلمتان وحمل نفسه متذرعا بأمور لا تقبل التأجيل.” وتظهر أيضا على شكل تبرم كما في قصة “انسلاخات” حيث الزوج ينتظر الفرصة للهروب من معاناة زوجتنه أثناء حاجتها الماسة له: “كان منهمكا بحواره مع الطبيب بتظاهر شديد.. كان الحوار يخص ورقة تنقص الملف، أحسست أن الأمر كان نجدة من السماء لزوجي الذي ودعني مسرعا للبحث عن الورقة الضائعة وعن إحساس ضائع بالأمان أيضا…”
وتتحول العلاقات إلى صراع غير حاد كما في قصة “مصارحة” التي تثور فيها الشخصية على الكاتبة: “تأبط بضع وريقات من على سطح مكتبي وفرشها أرضا، ربما أدرك أن لا جدوى من الحوار، جلست أرقبه وبداخلي غصة فرح، فالفرح في موقفي هذا ليس دليل انتصار وإنما هو إحساس داخلي أشبه بالحزن أو الخزي إن صح التعبير، رمقني بنظرة فاحصة كأنما يكتب صك تحرره مني ويلغي بالتالي قراري حتى لا أعلن انتصاري عليه يوما، قهقه عاليا لتتحول ضحكته إلى نار تلتهمني قبل أن تلتهمه والأوراق”.
يمكن تسطير خطاطة للعلاقات في المجموعة، يمكن أن تكون نواة لدراسة معمقة للعلاقات التقابلية بين الشخصيات في المتون السردية القصصية منها والروائية، و هي كالتالي:
هو مقابل أنا أو أنا مقابل هو،
هو مقابل هي أو هي مقابل هو،
تغيب هي مقابل أنا أو أنا مقابل هي،
هو مقابل هو ذاته أو هي مقابل ذاتها،
هو مقابل الجماعة.
هذه التقابلات تشكل جزءا من البناء السيميائي للشخصيات، وأيضا، أساسا لبناء العملية الحكائية في الأعمال السردية.
المستوى الثاني:
يقول الروائي الفرنسي الشهير هُنُري دو بلزاك (Honoré de Balzac) في تقديم روايته “قضية غامضة” (Une ténébreuse affaire): “النوع، بالمعنى الذي يمكن أن نعطيه لهذه الكلمة، هو شخصية تُلَخص فيها السمات الأساسية لكل من يشبهها من قريب أو من بعيد، إنها نموذج النوع. إذن سنجد نقط التقاء بين هذا النوع والكثير من شخصيات الزمن الحاضر.” هذا فيما يخص الأعمال الروائية، أما فيما يخص الأعمال القصصية فإننا نجد هذا النوع من العلاقات الترابطية للشخصيات كما أشرنا إليه في دراستنا “بناء الشخصية في القصة القصيرة” المنشورة في الملحق الثقافي لجريدة الميثاق الوطني. ونجد نوعا آخر يتجلى في الصدى الذي يمكن أن يتردد عبر مسالك المجموعات القصصية من خلال عودة بعض الشخصيات كما في المتن الروائي الأوربي في القرن التاسع عشر خصوصا مع “بلزاك” و”إميل زولا”، أو من خلال التشابه أو التعارض بين بعض الشخصيات التي تظهر في القصص المختلفة المكونة لمجموعة معينة.
ضمن هذه السياقات نجد أن أغلبية شخصيات المجموعة الرئيسية تظهر بدون أسماء. كما لو أننا أمام نفس الشخصية المذكرة حينا والمؤنثة حينا آخر. ويمكن أن يكون تفسير غياب التسمية في ما جاء في نص “انسلاخات” حينما تقول القاصة على لسان إحدى الشخصيات:
“وأنا لم أغدُ إلا رقما.. مجرد رقم، وكأي رقم.. تمنيت لأول مرة لو كنت مترددة في قراراتي، ضعيفة في شخصيتي، أو ربما فاقدة للوعي حتى لا أحس بما يجري حولي ولكي لا اشهد انسلاخي عن إنسانيتي واسمي وكياني، مشيت وراءها في ممر طويل تساقطت على جنباته ذكرياتي وابتساماتي وجولات قدتها بفخر شديد وظننت أنها خالدة وباقية ما بقيت الأنفاس بصدري”.
ويمكن أن يكون تفسير ذلك أيضا حالة اللاإدراك للذات وللواقع وللمحيط وتجلياته والتي تقع فيها الشخصيات كما حدث في قصة “هواجس” عندما تتساءل الشخصية عن مكنونها وعن هويتها، تقول القاصة:
“أشعل السيجارة وحاول تتبع اليد التي ساعدته.. كان هو.. هو لكن بشكل مختلف، أنيق ومتعجرف. من أنت لا تقل إنك أنا لأني أنا أنا. ”
ويمكن أن يكون تفسير ذلك أيضا حالة الإحباط الانكسار التي تعيشها الشخصيات، كما في قصة “المصارحة” حيث جاء:
“ولو سألني الناس ماذا سأقول لهم؟.. سامحوني فأنا قررت الرحيل عن زمن ولى، ولو سألوني ما اسمي؟ سأقول ربما سيد أو محمد أو عربي أو.. أو.. ومهنتي؟.. في غزة كنت مناضلا وفي المغرب مهاجرا سريا وفي بلاد لا أعرف موقعها في الخريطة كنت لاجئا.. أليس كذلك”.
ويمكن أيضا أن يكون تفسير ذلك حالة التيه التي ترافق الشخصيات ولا تدرك هي بدورها كينونتها، كما في قصة “المصارحة” أيضا عندما تقول القاصة على لسان الشخصية:
“- وماذا سأقول للناس وكيف سيتقبلون شخصية وهمية مثلي.. ماذا عن ماضيَ ومن أكون ؟
– كما قلت لك وكما كررت مرارا لست أول كاتب يخترع شخصية ويلبسها نمطا معينا ويجعلها تعبر عن مواقفه”.
فيما يخص التشابه أو التعارض بين بعض الشخصيات التي تظهر في القصص المختلفة المكونة لمجموعة معينة، تمكن الإشارة لما نسميه “الرابط” بين قصة “المصارحة” وقصة “هواجس” من جهة وقصة “فدائي” و”خطة التراجع عن قرار التراجع”، من جهة أخرى.
بين هاتين القصتين الأخيرتين تنسج القاصة مجموعة من الخيوط المشتركة في بناء الشخصيات. يمكن أن نقابل بين الرجلين “حسام” و”الفدائي” والمرأتين “الزوجة” و”السجينة”. الرجلان هما عسكريان على الهامش ليس بيديهما ما يقدمانه للمعركة. يتحدث “الفدائي” عن نفسه قائلا: ” وكيف أكون زعيما وآخر كثيبة كانت معي ماتت تحت قصف مشترك”؛ بينما يخاطب القائد حساما قائلا: “يبدو أنك كبرت في السن وتحتاج للراحة مقدم حسام.”
أما بالنسبة للمرأتين فكلتاهما تقبل دون تردد مشاركة الرجل أمامها في همه ومشاكله ولا تجد في ذلك حرجا، مجبرة أو عن طيب خاطر. في قصة “خطة التراجع عن قرار التراجع”:
“لم تعد زينب تبكي من الأمر وفقدت القدرة على الكلام إلا للضرورة القصوى وصارت لا تجيد إلا الاستماع إلى حكايات زوجها عن الحرب والانتصار والانهزام وهو يرسم خطة التراجع عن قرار التراجع حتى صارت هي الأخرى تؤمن بها دون أن تدري. اقتربت منه أكثر وجلست إلى الطاولة بإصغاء تام.”
وفي قصة “الفدائي” سلمت المرأة الساردة أمرها وقالت:
“جلست أرقب طيفه يعبر الغرفة المظلمة، كان تائها، خائفا من مصير يريد أن يرسمه لسجينته، للحظة تخيلت أنه خائف أكثر مني، بداخلي إيمان قوي أنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، وأن ما أمر به الآن هو امتحان لمدى تشبثي بإيماني، ربما هي مجرد هلوسة إنسانة محبوسة بين أربعة جدران، إنسانة لا تملك إلا قلبا ضعيفا وفكرا تائها، عادة ما يسافر عبر عوالم جنونية ثم يعود.”
أما في قصتي “المصارحة” و”هواجس”، فتأتي شخصية حقيقية أمام شخصية “غير حقيقية”، ولنقل هي شخصية أدبية، أو “وهمية” بتعبير القاصة. وتقوم بمواجهتها. الكاتبة مرة والكاتب مرة أخرى، القاص أو الروائي (الأمر غير واضح) مرة والمسرحي مرة أخرى. كلاهما يوجد وحده ولا ترافقه إلا كتاباته ومكتبه الغير منظم وأوراقه المبعثرة. كلاهما أيضا يحمل أفكارا يدافع عنها عن طريق الكتابة. جاء في قصة “المصارحة”:
“- من الذي لن يهتم، هم أم أنت؟ كيف تتخلين عني وكنت المعبر عن أفكارك دوما، هل سمعت يوما بكاتب يتخلى عن بنات أفكاره وشخصياته.. هل أعد لك من ماتوا دفاعا عن مواقفهم فخلدت شخصياتهم؟
– إذن تفكر في موتي لتخلد أنت!
– بل أفكر في أن نخلد معا، أم أنك قررت البحث عن شخصية عاجزة كالمحيطين بك؟”.
بينما جاء في قصة “هواجس”:
“نفث دخان السيجارة والسيجارة وكل أنفاسه وقام ممتعضا:
– من أنت لتخترق خلوتي؟
– أنا الاختيار الذي رفضته من سنين أتذكر، عشت على الهامش وستموت كذلك، ماذا لو قبلت الطلب يومها؟
– ما كنت لأبيع ضميري.”
في المقابل تساهم الشخصية الثانية في كل قصة في تأثيث الفضاء الحكائي خالقة في موازاتها للشخصية الأولى ما يمكن أن يمثل في مربع سيميائي تتبادل فيه الأدوار بين السلب والإيجاب أو القوة والضعف وفي مقابلهما اللاسلب واللاإيجاب، أو اللاقوة واللاضعف.

خاتمة

دفعتنا قراءتنا للمجموعة القصصية “عيون القلب” للقاصة المغربية ليلى مهيدرة إلى استعمال الأدوات النقدية التي جاءت بها السيميائيات السردية بالخصوص مع بعض التطويرات التي وصلنا إليها في عملنا على إعادة النظر حول البناء السيميولساني.
كان التأويل لعمل القاصة ينطلق من هذه الأدوات بدءاً من وضع فرضيات قرائية دفعت إليها البنية الشكلية للمجموعة قبل أن يوصلنا البحث إلى تأكيد الفرضيات واعتبارها استنتاجات أظهرت أن البناء السردي لمجموعة “عيون القلب” احترم أدبيات القصة القصيرة خصوصا والسرد عامة.
تناولنا المجموعة بالدراسة من خلال مقاربة النصوص كعلامات وحاولنا قراءة أطرافها اعتمادا على علامات الابتداء والانتهاء وعلاقاتها بالمضمون القصصي. ثم على مقاربة البنيات التقابلية للشخصيات من خلال مستويين تعمل من خلالهما الشخصيات على خلق تقابلات بنيوية معينة.
واتضح جليا أن هناك بناءً رصينا للشخصيات كذوات فردية تدافع عن مواقفها الخاصة ومن خلالها عن مواقف القاصة، ثم كعوامل، حسب تعريف غريماس مع بعض التعديل، تدخل في علاقات منسوجة على مستويين: مستوى النص الواحد ثم مستوى النص الكلي الذي تشكله النصوص المكونة للمجموعة.
هذه الشخصيات التي تعاملنا معها من خلال النموذج العاملي تمكن مقاربتها من خلال أدوات نقدية مغايرة ومختلفة بإمكانها أن تبرز مثلا العنصر النفسي أو الاجتماعي لكل شخصية، ويمكن أيضا من نفس المنظور الاشتغال عليها من خلال علاقاتها الاجتماعية والاقتصادية وكذا السياسية. ويمكن أيضا أن يكون الاشتغال على البنيات السردية من خلال تطور الحكاية والبناء الحكائي في كل قصة ومدى تأثير ذلك على البناء العام للمجموعة. هي إذن أسئلة مفتوحة يمكن استثمارها في دراسات أخرى للمجموعة القصصية “عيون القلب”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى